اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱلۡمُقَسِّمَٰتِ أَمۡرًا} (4)

بسم الله الرحمان الرحيم

قوله تعالى : { والذاريات ذَرْواً } أول هذه السورة مناسب لآخرها قبلها ، لأنه تعالى لما بين الحشر بدلائله ، وقال : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } وقال : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } تُجْبِرهم على الإيمان ، إشارة إلى إصرارهم على الكفر بعد إقامة البرهان ، وتلاوة القرآن عليهم ، لم يبق إلا اليمين فقال : { والذاريات . . إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } وقال في آخرها { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ } .

فصل

وفي الحكمة في القسم ههنا وجوه :

أحدها : أن الكفار كانوا يَنْسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - للجدال ، ومعرفة طرقه ، وأنه عالم بفساد قولهم ، وأنه يغلبهم بمعرفته بالجدال ، وحينئذ لا يمكن أن يقابلهم بالأدلة ، كما أن من أقام خَصْمُه عليه الدليل ولم يبق له حجة ، يقول : إنه غلبني ، لعلمه بالجدل وعجزي عن ذلك ، وهو يعلم في نفسه أن الحق تبعي{[52635]} ولا يبقى للمتكلم المبرهن غير اليمين ، ليقول : والله إن الأمر كما أقول ولا أجادلك بالباطل لأنه لو استدل بطريق آخر يقول خصمه فيه كقوله الأول ، فلا يبقى إلا السكوت ، أو التمسك بالأيمان ، وترك إقامة البرهان .

الثاني : أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة ، وتعتقد أنها تخرب المنازل ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم{[52636]} - يكثر الإقسام ، دلالة على أنه صادق ولذلك كان أمره يتزايد ويعلموا{[52637]} أنه لا يحلف بها كاذباً .

الثالث : أن الأيمان التي أقسم بها كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان لينبّه بها على كمال القدرة ، كقول القائل للمنعم : وحقِّ نِعْمَتِك الكثيرة إنّي لا زال أَشْكُركَ . فذكر النعم التي هي سبب مفيد لدوام الشكر ، وإنما أخرجها مُخْرج الأيمان ، إيذاناً بأنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم فيصغي إليه السامع أكثر ما يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر{[52638]} فبدأ بالحلف{[52639]} .

فصل

أورد القسم على أمور منها الوحدانية ، ولظهور أمرها واعترافهم بها حيث يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلفى } [ الزمر : 3 ] وقولهم : { مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] لم يقسم عليها إلا في سورة الصافات{[52640]} ومنها الرسالة وهو في سورتين «وَالنَّجْمِ »{[52641]} «وَالضُّحَى »{[52642]} ، وبالحروف في «يس »{[52643]} ومنها الحشر ، والجزاء وما يتعلق به ، فلكثرة إنكارهم له كرر القسم عليه{[52644]} .

فصل

أقسم الله بجمع السلامة المؤنث في سور خمس{[52645]} ، ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورةٍ أصلاً ، فلم يقل : والصَّالِحِينَ من عبادي ، ولا المقربين إلى غير ذلك مع أن المذكر أشرف ؛ لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل{[52646]} .

فصل

روي عن علي - ( رضي الله عنه ){[52647]} - في قوله تعالى : { والذاريات } قال هي الرياح التي تَذْرُو التُّراب يقال : ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وأَذْرَتْ .

«الحَامِلاَت وقْراً » يعني السحاب تحمل ثِقْلاً من الماء .

«فَالجَارِيَاتِ يُسْراً » هي السفن تجري في الماء جرياً سهلاً .

«فَالمُقَسِّماتِ أَمْراً » هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به ، أقسم بهذه الأشياء ، لما فيها من الدلالة على صنعته وقدرته{[52648]} .

قال ابن الخطيب : والأقرب أن هذه صفات للرياح ، فالذاريات هي التي تُنشئ السحاب أولاً ، والحاملات هي التي تحمل السحب التي هي بحار{[52649]} المياه التي إذا سحّتْ جرت السيول العظيمة ، وهي أوقارٌ أثقل من جبال . والجاريات هي التي تجري السحب عِنْدَ حَمْلِها ، وَالمُقَسِّمَات هي الرياح التي تقسم الأمطار وتفرقها على الأقطار ، ويحتمل أن يقال : هذه أمور أربعة ذكرت لأمور أربعة بها تتم الإعادة ، لأن الأجزاء المتفرقة بعضها في تُخُوم الأرض ، وبعضها في قَعْر{[52650]} البِحَار ، وبعضها في جَوِّ الهواء ، وفي الأجزاء البخارية اللطيفة المنفصلة عن الأبدان فالذاريات هي التي تجمع الذرات من الأرض ، وتَذْرُو التُّراب من وجه الأرض والحاملات هي التي تجمع الأجزاء من الجو وتحمله حملاً ، فإن التراب لا ترفعه الرياح حملاً مستقلاًّ بل تنقله من موضع إلى موضع ، بخلاف السحاب فإنه يحمله في الجو حملاً لا يقع منه شيء ، والجاريات هي الجامعة من الماء ، فإن من يُجْرِي السفنَ الثقيلة في تيّار البحار قادرٌ على نقل الأجزاء من البحر إلى البرّ ، فإذن تبين أن الجمع من الأرض وجو الهواء ووسط البحار ممكن ، وإذا اجتمع ذلك كله بَقِيَ{[52651]} نفخُ الروح ، وهي من أمر الله ، فقال : «فالمُقسِّمَاتِ أَمْراً » يعني الملائكة التي تنفخ الروح في الجسد بأَمْر الله{[52652]} .

قوله : «ذَرواً » منصوب على المصدر المؤكد العامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل{[52653]} ، والمفعول محذوف اختصاراً{[52654]} إذ لا نظير لما تذروه هنا .

وأدغم أبو عمرو وحمزة تاء «الذاريات » في ذال «ذَرْواً »{[52655]} وأما «وِقْراً » فهو مفعول{[52656]} به بالحاملات ، كما يقال : حَمَل فلانٌ عدْلاً ثَقِيلاً{[52657]} .

قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون اسماً أقِيمَ مُقَام المصدر{[52658]} ، كقوله : ضَرَبَهُ سَوْطاً{[52659]} . ويؤيده قراءة من قرأ بفتح الواو .

والوِقْرُ - بالكسر - اسم ما يوقِر أي يَحُلُّ . وقرئ بالفتح{[52660]} ، وذلك على تسمية المفعول{[52661]} بالمصدر . ويجوز أن يكون مصدراً على حاله والعامل فيه معنى الفعل قبله ، لأن الحَمْل والوَقْر بمعنى واحد ، وإن كان بينهما عموم وخصوص{[52662]} .

قوله : «يُسْراً » يجوز أن يكون مصدراً من معنى ما قبله أي جَرْياً يُسْراً{[52663]} وأن يكون حالاً ، أي ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جعلت نفس اليُسْر مبالغةً{[52664]} .

قوله : «أَمْراً » يجوز أن يكون مفعولاً به ، وهو الظاهر ، كقولك : فُلاَنٌ قَسَّمَ الرِّزْقَ أَوِ المَالَ ، وأن تكون حالاً أي مأمورة{[52665]} . وعلى هذا فيحتاج إلى حذف مفعول «المُقَسِّمَات » . وقد يقال : لا حاجة لتقديره كما في الذاريات . وهل هذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات ، والفاء للترتيب في القسم لا في المقسم به ؟

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد الرياح وحدها ، لأنها تُنْشِئ السحاب وتُقِلُّه ، وتَصْرِفُهُ ، وتجري في الجو جرياً سَهْلاً{[52666]} وعلى هذا يكون من عطف الصفات ، والمراد واحد ، كقوله ( - رحمه الله {[52667]}- ) :

يا لَهْفَ زَيَّابَةِ لِلْحَارِثِ *** الصّابحِ فَالغَانِمِ فَالآيبِ{[52668]}

وقوله :

إِلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ *** وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ{[52669]}

فتكون الفاء على هذا الترتيب{[52670]} الأمور في الوجود .

فإن قيل : إن كان «وقراً » مَفْعولاً لَمْ يُجمع وما قيل : أوقاراً ؟ .

فالجواب : لأن جماعةً مِنَ الرياح قد تحمل وقرا واحداً ، وكذا القول في المقسّمات أمراً إذا قيل : إنه مفعول به ، لأنه قد تجمع جماعة من الملائكة على أمر واحد{[52671]} .


[52635]:كذا في أ وفي ب وفي الرازي: بيدي.
[52636]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[52637]:كذا في أ وب والأصح نحويا: يعلمون رفعا، ولعله سهو من الناسخ، على أن عبارة الرازي: وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذبا.
[52638]:كذا في أ والرازي، وفي ب معتبرا.
[52639]:وانظر: الرازي 28/194 و193.
[52640]:حيث قال: إن إلهكم لواحد. الآية 4.
[52641]:قال: {والنجم إذا هوى. ما ضلّ صاحبكم وما غوى} الآيتان 1 و2 منها.
[52642]:قال: {والضحى. والليل إذا سجى. ما ودّعك ربك وما قلى} الآيات من (1) إلى (3).
[52643]:قال: {يس والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين} 1 و2 منها.
[52644]:وانظر: الرازي معنى المرجع السابق.
[52645]:هي الأولى من "الصافات" والأولى من "النازعات" والأولى من "المرسلات" والأولى من "العاديات" وتلك الآية وهي الأولى من الذاريات.
[52646]:المرجع السابق.
[52647]:سقط من أ.
[52648]:قاله الإمامان البغوي والخازن في تفسيريهما 6/241 وانظر أيضا القرطبي 17/29، ومعاني الفراء 3/82 والزجاج 5/51.
[52649]:كذا في النسختين بالحاء جمع بحر، وفي الرازي: بخار بالخاء.
[52650]:في ب قعور وكذا في الرازي.
[52651]:في الرازي: يبقى بالمضارعة.
[52652]:وانظر: تفسير الإمام فخر الدين 28/195.
[52653]:وهو ذراية –بزنة فاعلة-.
[52654]:والتقدير: والذاريات الأشياء ذروا.
[52655]:وانظر: الإتحاف 399.
[52656]:التبيان 1178. والرازي 28/196.
[52657]:المرجع الأخير السابق.
[52658]:فتكون مما ناب عن المفعول المطلق.
[52659]:انظر: الرازي المرجع السابق.
[52660]:ولم يحدد الزمخشري في الكشاف 4/13 وأبو حيان في البحر 8/133 من قرأ بها وسكت عنها ابن خالويه في المختصر 145، وابن جني في المحتسب 2/286. وهي شاذة غير متواترة.
[52661]:كذا في النسختين والأقرب كما في الفخر الرازي والكشاف والبحر: "المحمول" وانظر: الرازي 28/96 والكشاف 4/13 والبحر 8/133.
[52662]:الكشاف المرجع السابق.
[52663]:البحر والكشاف والرازي السابقان.
[52664]:قال أبو حيان: "فيسرا مصدر وصف به على تقدير محذوف فهو على رأي سيبويه في موضع الحال" وانظر: البحر 8/133.
[52665]:البحر السابق والرازي 28/196.
[52666]:الكشاف 4/13.
[52667]:زيادة من أ.
[52668]:سبق هذا البيت، وشاهده هنا عطف صفات الغانم والآيب على الصابح عطف صفات وانظر: البحر 8/134 و133.
[52669]:سبق كسابقه، وشاهده مثله من عطف الصفات بعضها على بعض فقد عطف "ليث الكتيبة" على ابن الهمام وابن الهمام على القوم.
[52670]:كذا في النسختين والأصح: لترتيب باللام الجارة.
[52671]:بالمعنى من تفسيره السابق.