واستراق السمع : سرقتهُ . صيغ وزن الافتعال للتكلف . ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه .
و« أتبعه » بمعنى تَبعه . والهمزة زائدة مثل همزة أبان بمعنى بان . وتقدم في قوله تعالى : { فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } في سورة الأعراف ( 175 ) .
وفيه تعليم لهم بأن الشهب التي يشاهدونها متساقطةً في السماء هي رجوم للشياطين المسترِقة طرداً لها عن استراق السمع كاملاً ، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا سببه .
والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدمَ اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه ؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فساداً في الأرض . وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان ، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتاً فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمعَ وتمزيق تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح .
ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها . وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تَلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله : { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } [ سورة الشعراء : 223 ] .
ومقتضى تكوين الشهب للرجم أن هذا الاستراق قد مُنع عن الشياطين .
وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاماً لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة ، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هُريرة رضي الله عنهم من استراق الجن السمع وصفاً للكهانة السابقة . ويكون قوله : { ليسوا بشيء } وصفاً لآخر أمرهم .
وقد ثبت بالكتاب والسنّة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله : { والشياطين كل بناء وغواص } [ سورة ص : 37 ] الآية . والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر ، ويخص باسم الشياطين نوع دأبه الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة .
وظواهر الأخبار الصحيحة من الكتاب والسنة تدل على أن هذه المخلوقات أصناف ، وأنها سابحة في الأجواء وفي طبقات مما وراء الهواء وتتصل بالأرض ، وأن منها أصنافاً لها اتصَال بالنفوس البشرية دون الأجسام وهو الوسواس ولا يخلو منه البشر .
وبعضُ ظواهر الأخبار من السنة تقتضي أن صنفاً له اتصال بنفوس ذات استعداد خاص لاستفادة معرفة الواقعات قبل وقوعها أو الواقعات التي يبعد في مجاري العادات بلوغ وقوعها ، فتسبق بعضُ النفوس بمعرفتها قبل بلوغها المعتاد .
وهذه النفوس هي نفوس الكهان وأهل الشعوذة ، وهذا الصنف من المخلوقات من الجن أوالشياطين هو المسمى بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى : { إلا من استرق السمع } . فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جرّاء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمه إلى التوجه إليه وحده ، فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله ، فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقاً ما ، فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء وتموجات الطبقات العليا المجاورة لها ، مما وراء الكرة الهوائية .
ولنفرض أن هذه الطبقة هي المسماة بالسماء الدنيا وأن هذه التموجات هي تموجات الأثير فإنها تحفظ الأصوات مثلاً .
ثم هذه التموجات التي تخلُص إلى عقول أهل هذه النفوس المستعدة لها تخلص إليها مقطّعة مُجملة فيستعين أصحاب تلك النّفوس على تأليفها وتأويلها بما في طباعهم من ذكاء وزكانة ، ويخبرون بحاصل ما استخلصوه من بين ما تلقفوه وما ألّفوه وما أولوه . وهم في مصادفة بعض الصدق متفاوتون على مقدار تفاوتهم في حدة الذكاء وصفاء الفهم والمقارنة بين الأشياء ، وعلى مقدار دُربتهم ورسوخهم في معالجة مهنتهم وتقادم عهدهم فيها . فهؤلاء هم الكهان ، وكانوا كثيرين بين قبائل العرب . وتختلف سمعتهم بين أقوامهم بمقدار مصادفتهم لما في عقول أقوامهم . ولا شك أن لسذاجة عقول القوم أثراً ما ، وكان أقوامهم يعُدون المعمّرين منهم أقرب إلى الإصابة فيما ينبئون به ، وهم بفرط فطنتهم واستغفالهم البله من مريديهم لا يصدرون إلاّ كلاماً مجملاً موجهاً قابلاً للتأويل بعدة احتمالات ، بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح ، فيكلون تأويل كلماتهم إلى ما يحدث للنّاس في مثل الأغراض الصادرة فيها تلك الكلماتُ ، وكلامهم خلو من الإرشاد والحقائق الصالحة .
وهم بحيلتهم واطلاعهم على ميادين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزماً فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع ، لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلاً على مصادفتها الحق والواقع ، وأنها أمارة صدق . وكانوا في الغالب يلوذون بالعزلة ، ويكثرون النظر في النجوم ليلاً لتتفرغ أذهانهم . فهذا حال الكهان وهو قائم على أسس الدجل والحيلة والشعوذة مع الاستعانة باستعداد خاص في النفس وقوة تخترق الحواجز المألوفة .
وهذا يفسره ما في كتاب الأدب من « صحيح البخاري » عن عائشة : أن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال : " ليسوا بشيء ( أي لا وجود لما يزعمونه ) . فقيل : يا رسول الله فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حَقاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنيّ فَيقرُّها في أذن وليّه قَرّ الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة " .
وما في تفسير سورة الحجر من « صحيح البخاري » من حديث سفيان عن أبي هُريرة قال نبي الله صلى الله عليه وسلم " إذا قضى الله الأمر في السماء ( أي أمر أو أوحى ) وضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله « فإنهم المأمورون كل في وظيفته » كالسلسلة على صَفوانٍ ينفُذُهم ذلك ( أي يحصل العلم لهم . وتقريبها حركات آلة تلقي الرسائل البرقية تلغراف ) . . . فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر ( أي هي طبقات مفاوتة في العلو ) . ووصف سفيان بيده فحرّفها وفَرّج بين أصابع يده اليمنى نَصَبها بعضَها فوق بعض ( فيسمع المسترق الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخَر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان الكاهن أو الساحر ) ، فربّما أدرك الشّهاب المستمع قبل أن يلقيها ، وربّما ألقاها قبل أن يدركها فيكذب معها مائة كَذبة . فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً للكلمة التي سُمعت من السماء " . أما أخبار الكهان وقصصهم فأكثرها موضوعات وتكاذيب . وأصحها حديث سواد بن قارب في قصة إسلام عُمر رضي الله عنه من « صحيح البخاري » .
وهذه الظواهر كلها لا تقتضي إلا إدراك المسموعات من كلام الملائكة . ولا محالة أنها مقرّبة بالمسموعات ، لأنها دلالة على عزائم النّفوس الملكية وتوجهاتها نحو مسخراتها .
وعبر عنه بالسمع لأنه يؤول إلى الخبر ، فالذي يحصل لمسترق السمع شعور ما تتوجه الملائكة لتسخيره ، والذي يحصل للكاهن كذلك . والمآل أن الكاهن يخبر به فيؤول إلى مسموع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى من الشياطين، فقال سبحانه: {إلا من استرق السمع}، يعني: من اختطف السمع من كلام الملائكة، {فأتبعه شهاب مبين} يعني: الكوكب المضيء، وهو الثاقب، ونظيرها في الصافات: {فأتبعه شهاب ثاقب}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 17]
يقول تعالى ذكره: وحفظنا السماء الدنيا من كلّ شيطان لعين قد رجمه الله ولعنه. "إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ "يقول: لكن قد يسترق من الشياطين السمع مما يحدث في السماء بعضها، فيتبعه شهاب من النار مبين يبين أثره فيه، إما بإخباله وإفساده أو بإحراقه...
عن قتادة قوله: "إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ" وهو نحو قوله: "إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ"...
عن ابن جريج: "مِنْ كُلّ شَيْطانٍ رَجيمٍ" قال: الرجيم: الملعون. قال: وقال القاسم عن الكسائي إنه قال: الرجم في جميع القرآن: الشتم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 17]
ذكر أن الشياطين كانوا يصعدون السماء، فيستمعون من أخبار السماء من الملائكة مما يكون في الأرض من غيث وغيره. ثم زادوا فيها ما شاءوا، فيلقون إلى الكهنة، فيخبر الكهنة الناس، فيقولون: ألم نخبركم بالمطر في يوم كذا وكذا، وكان حقا، ثم منعوا عن صعودهم إلى السماء، وحفظها منهم فجعلوا يسترقون السمع، فسلط الله الشهب عليهم حتى يقذفوا بها، وقوله تعالى: {فأتبعه شهاب مبين} وقوله تعالى: {ويقذفون من كل جانب دحورا} (الصافات: 8 و 9) وقوله تعالى: {فأتبعه شهاب ثاقب} (الصافات: 10)...
وقال بعضهم: الرجيم اللعين، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: من كل شيطان لعين. واللعين في اللغة، هو المطرود، المبعد، وهو ما ذكر {دحورا} (الصافات: 9). وقوله تعالى: {وحفظناها من كل شيطان رجيم} {إلا من استرق السمع} يقول: حفظناها من أن يصل إليها شيطان، أو يعلم من أمرها شيئا إلا استراقا {فأتبعه شهاب مبين} أي كوكب مضيء.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
مبين، قال الفراء: أي لا يخطئ...
والاستراق أخذ الشيء خفيا، وليس طلبهم استراق السمع مع علمهم بالشهب خروج عن العادة في صفة العقلاء، لأنهم قد يطمعون في السلامة من بعض الجهات. والشهاب: عمود من نور يمد لشدة ضيائه كالنار، وجمعه شهب.
والاتباع: إلحاق الثاني بالأول، أتبعه اتباعا، وتبعه يتبعه إذا طلب اللحاق به، وكذلك اتّبعه اتّباعا (بالتشديد)...
{إلا من استرق السمع} لا يمكن حمل لفظة {إلا} ههنا على الاستثناء، بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها، وإنما يحاولون القرب منها، فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق، فوجب أن يكون معناه: لكن من استرق السمع...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وجاء بمعنى الآية قوله في سورة الجن حكاية عنهم: {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا 8 وأنا كنا نقعد مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 8 -9] وقوله في سورة الملك: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} [الملك: 5].
وبعد، فالكتاب الكريم أخبر بأن الشياطين أرادوا أن يختطفوا شيئا من أخبار الغيب مما لدى الملائكة الكرام، فسلطت عليهم الشهب المشتعلة، والنجوم المتقدة، فأحرقتهم، ولا نبحث عن معرفة كنه ذلك، ولا ننعم في النظر، لندرك حقيقته، لأنا لم نؤت من الوسائل والأسباب ما يمكننا من معرفة ذلك معرفة صحيحة، تجعلنا نؤمن به إيمانا مبنيا على البرهان بوسائله المعروفة، وليس لنا إلا التصديق بما جاء في الكتاب وأوحي به إلى النبي الكريم، والبحث وراء ذلك لا يوقفنا على علم صحيح، بل على حدس وتخمين، لا حاجة للمسلم به للاطمئنان في دينه، فالأحرى به أن يعرض عنه لئلا يحيد عن القصد، ويضل عن سواء السبيل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... ما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟.. كل هذا غيب من غيب الله، لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص. ولا جدوى في الخوض فيه، لأنه لا يزيد شيئا في العقيدة؛ ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة. ثم لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة. فلنعلم أن لا سبيل في السماء لشيطان، وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ، وأن ما ترمز إليه من سمو وعلي مصون لا يناله دنس ولا رجس، ولا يخطر فيه شيطان، وإلا طورد فطرد وحيل بينه وبين ما يريد. ولا ننسى جمال الحركة في المشهد في رسم البرج الثابت، والشيطان الصاعد، والشهاب المنقض، فهي من بدائع التصوير في هذا الكتاب الجميل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واستراق السمع: سرقتهُ. صيغ وزن الافتعال للتكلف. ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه.
..وفيه تعليم لهم بأن الشهب التي يشاهدونها متساقطةً في السماء هي رجوم للشياطين المسترِقة طرداً لها عن استراق السمع كاملاً، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا سببه.
والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدمَ اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فساداً في الأرض. وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتاً فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمعَ وتمزيق تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح. ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها. وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تَلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله: {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [سورة الشعراء: 223].
وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاماً لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هُريرة رضي الله عنهم من استراق الجن السمع وصفاً للكهانة السابقة. ويكون قوله: {ليسوا بشيء} وصفاً لآخر أمرهم. وقد ثبت بالكتاب والسنّة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله: {والشياطين كل بناء وغواص} [سورة ص: 37] الآية. والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر، ويخص باسم الشياطين نوع دأبه الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... وإن هذا لتصوير حكيم لحفظ الله السماوات من أن يكون في السموات مفسدون، كما في الأرض من يفسد فيها، وهم الشياطين خارجون عن الطاعة كشياطين الإنس والجن في الأرض.