غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِلَّا مَنِ ٱسۡتَرَقَ ٱلسَّمۡعَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ مُّبِينٞ} (18)

{ إلا من استرق السمع } نصب عل الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق وجائز أن يكون مخفوضاً أي إلا ممن استرق . وعن ابن عباس : يريد الخطفة اليسيرة { فاتبعه } أي أدركه ولحقه { شهابٌ مبين } ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار ساطع ، وقد يسمى الكوكب شهاباً لأجل لمعانه وبريقه . قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون من السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة ، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها وهذا هو المراد بحفظ السموات كما لو حفظ أحدنا منزله ممن يتجسس ويخشى منه الفساد . والاستراق السعي في استماع الكلام مستخفياً . قال الحكماء : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس ، فإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها واشتعل لدهنية فيه فيحدث منها أنواع النيران من جملتها الشهب ، فلا ريب أنها كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها لم تكن مسلطة على الشياطين . وإنما قيض كونها رجوماً للشياطين في زمن عيسى عليه السلام ثم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم .

أسئلة : كيف يجوز أن يشاهد هؤلاء الجن واحداً كان أو أكثر من جنسهم يسترقون السمع فيحرقون ، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم ؟ والجواب : إذا جاء القضاء عمي البصر ، فإذا قيض الله لطائفة منهم الحرق لطغيانها قدر له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على العمل المفضي الى الهلاك والبوار . آخر : قد ورد في الأخبار أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، فهؤلاء الجن إن قدروا على خرق السماء ناقض قوله سبحانه { هل ترى من فطور } [ الملك : 3 ] وإن لم يقدروا فكيف يمكنهم استماع أسرار الملائكة من ذلك البعد البعيد ، ولم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض ؟ وأجيب بأنا سلمنا أن بعد ما بين كل سماء ذلك القدر إلا أن نحن الفلك لعله قدر قليل ، وقد روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال : ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا ؟ قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي ذلك الخبر من سماء إلى سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، ويتخطف الجن فيرمون فما جاءُوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون " .

آخر : الشياطين مخلوقون من نار فكيف تحرق النار النار ؟ والجواب : أن الأقوى قد يبطل الأضعف وإن كان من جنسه .

آخر : إن هذا الرجم لو كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بقي بعد وفاته ؟ الجواب : هذا من المعجزات الباقية والغرض منه إبطال الكهانة .

آخر : إن الشهب قد تحدث بالقرب من الأرض وإلا لم يمكن الإحساس بها فكيف تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك حين الاستراق ؟ وأجيب بأن البعد عندنا غير مانع من السماع فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقعوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة .

آخر : لو كان يمكنهم نقل أخبار الملائكة إلى الكهنة فكيف لم يقدروا على نقل أسرار المؤمنين إلى الكفار ؟ وأجيب بأنه تعالى أقدرهم على شيء وأعجزهم عن شيء ولا يسأل عما يفعل . وأقول : لعل السبب فيه أن نسبتهم إلى الروحانيات أكثر .

آخر : إذا جوّزتم في الجملة اطلاع الجن على بعض المغيبات فقد ارتفع الوثوق عن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الغيوب فلا يكون دليلاً على صدقه . لا يقال : إنه تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم لأنا نقول : صدق هذا الكلام مبني على صحة نبوّته ، فلو أثبتنا صحة نبوّته به لزم الدور ؟ والجواب : أنا نعرف صحة نبوّته بدلائل أخر حتى لا يدور ، ولكن لا ريب أن إخباره عن بعض المغيبات مؤكد لنبوّته وإن لم يكن مثبتاً لها .

/خ50