التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ} (2)

وجملة { خلق الإنسان من علق } يجوز أن تكون بدلاً من جملة { الذي خلق } بدل مفصَّل من مُجْمل إن لم يقدر له مفعول ، أو بدل بعض إن قُدِّر له مفعول عام ، وسُلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداءً لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام .

ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل .

ويجوز أن تكون بياناً من { الذي خلق } إذا قُدر لفعل { خلق } الأول مفعول دل عليه بيانه فيكون تقدير الكلام : اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق .

وعدم ذكر مفعول لفعل { خلق } يجوز أن يكون لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، أي الذي هو الخالق وأن يكون حذف المفعول لإرادة العموم ، أي خلق كل المخلوقات ، وأن يكون تقديره : الذي خلق الإنسان اعتماداً على ما يرد بعده من قوله { خلق الإنسان } ، فهذه معانٍ في الآية .

وخص خلق الإِنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطَّرد في مقام الاستدلال إذ لا يَغفُلُ أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده ولذلك قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] .

وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم .

وفي قوله : { من علق } إشارة إلى ما ينطوي في أصل خَلْق الإِنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطانَ هذا العالم الأرضي .

والعلق : اسم جمع عَلَقَة وهي قطعةٌ قَدرُ الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطْباً لم يجفّ ، سمي بذلك تشبيهاً لها بدودةٍ صغيرة تسمَّى علقة ، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة ، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده وقد تدخل إلى فم الدابة وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يُتفطن لها .

ومعنى : { خلق الإنسان من علق } أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافيَة تصيران علقةً فإذا صارت علقة فقد أخذت في أطوار التكوّن ، فجُعلت العلقة مبدأ الخلق ولم تُجعل النطفة مبدأ الخلق لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة فلا يتخلق الجنين وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة .

ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة لأن الثابت في العلم الآن أن الإِنسان يتخلق من بويضة دقيقة جداً لا ترى إلا بالمرآة المكبِّرة أضعافاً تكون في مبدإ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها فتأخذ في التخلق إذا لم يَعُقْها عائق كما قال تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } [ الحج : 5 ] ، فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلاً فشابهت العلقة التي في الماء مشابَهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي سابحة فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة ، وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة .

ومعنى حرف { مِن } الابتداء .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ} (2)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني جلّ ثناؤه بقوله : "اقْرأْ باسِمِ رَبّكَ" محمدا صلى الله عليه وسلم، يقول : اقرأ يا محمد بذكر ربك الّذِي خَلَقَ ، ثم بين الذي خلق فقال : "خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَقٍ" يعني : من الدم ، وقال : من علق والمراد به من علقة...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

...والعلقة قطعة من دم رطب سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه ، فإذا جفت لم تكن علقة... ويحتمل مراده بذلك وجهين :

أحدهما : أن يبين قدر نعمته على الإنسان بأن خلقه من علقة مهينة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً متميزاً .

الثاني : أنه كما نقل الإنسان من حال إلى حال حتى استكمل ، كذلك نقلك من الجهالة إلى النبوة حتى تستكمل محلها . ...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

تخصيص لبعض ما ذكره بقوله ( الذي خلق ) لأنه يشتمل على الإنسان وغيره ، وإنما أفرد الإنسان بالذكر تشريفا له وتنبيها على ما خصه الله به من سائر الحيوان ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{ الذي خَلَقَ } مبهماً ، ثم فسره بقوله : { خَلَقَ الإنسان } تفخيماً لخلق الإنسان، ودلالة على عجيب فطرته . ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات ، إما لأن التنزيل إليه أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض ... احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه لا خالق غير الله تعالى ، ...

تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :

وفى الآية تلويح بأَن الإنسان خلق للقراءة والدراية ؛ إذ ذكر مع الأَمر بهما كما ذكر بذلك في قوله عز وجل { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان } [ الرحمن : 1 - 3 ] ...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

قال الإمام : أي ومن كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا ، وهو الحي الناطق الذي يسوده بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية ، ويسخرها لخدمته ، يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبي صلى الله عليه وسلم قارئا ، وإن لم يسبق له تعلم القراءة ، وجاء بهذه الآية بعد سابقتها ليزيد المعنى تأكيدا ، كأنه يقول لمن كرر القول( إنه ليس بقارئ ) : أيقن أنك قد صرت قارئا بإذن ربك الذي أوجد الكائنات ، وما القراءة إلا واحدة منها ، والذي أنشأ الإنسان خلقا كاملا من دم جامد لا شكل فيه ولا صورة ، وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الإنسان الكامل ، فهي أولى بسهولة الإيجاد ....

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وخص خلق الإِنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطَّرد في مقام الاستدلال إذ لا يَغفُلُ أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده ولذلك قال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] . وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم ....