التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰبٖۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (52)

قول موسى في جوابه { عِلْمُهَا عند رَبِّي فِي كتاب } صالحٌ للاحتمالين ، فعلى الاحتمال الأول يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن أحوال الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء ، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن ذراري المشركين فقال : « الله أعلم بما كانوا عاملين » .

وعلى الاحتمال الثاني يكون موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد فرعون وعدولاً عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله .

والحاصل أنّ موسى تجنّب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنّه لم يبعث بذلك . وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم .

وإضافة { عِلْمُهَا } من إضافة المصدر إلى مفعوله . وضمير { عِلْمُها } عائد إلى { القُرُوننِ الأولى } لأنّ لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره .

وقوله { في كتاب } يحتمل أن يكون الكتاب مجازاً في تفصيل العلم تشبيهاً له بالأمور المكتوبة ، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأنّ الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حِلِّزَة :

وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

ويؤكد هذا المعنى قوله { لاَّ يَضِلُّ رَبي ولا يَنسَى } .

والضلال : الخطأ في العلم ، شبّه بخطأ الطريق . والنسيان : عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم .