إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰبٖۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (52)

{ قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } لما شاهد اللعينُ ما نظمه عليه الصلاة والسلام في سلك الاستدلالِ من البرهان النيّر على الطراز الرائِع خاف أن يُظهر للناس حقّيةَ مقالاتِه عليه الصلاة والسلام وبُطلانَ خرافات نفسِه ظهوراً بيّناً فأراد أن يصرِفه عليه الصلاة والسلام عن سَننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلّق لها بالرسالات من الحكايات ، ويشغَلَه عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوعُ غفلةٍ فيتسلق بذلك إلى أن يدّعيَ بين يدي قومه نوعَ معرفة ، فقال : ما حالُ القرونِ الماضية والأممِ الخالية وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصّلة ؟ فأجاب عليه الصلاة والسلام : بأن العلمَ بأحوالهم مفصّلةً مما لا ملابسة له بمنصِب الرسالة وإنما علمُها عند الله عز وجل ، وأما ما قيل من أنه سأله عن حال مَنْ خلا من القرون وعن شقاء من شقيَ منهم وسعادةِ من سعِد فيأباه قوله تعالى : { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّي } فإن معناه أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما أنا عبدٌ لا أعلم منها إلا ما علّمنيه من الأمور المتعلقة بما أُرسلت به ، ولو كان المسؤولُ عنه ما ذكر من الشقاوة والسعادةِ لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلِم ومن تولى فقد عُذّب حسبما نطق به قوله تعالى : { والسلام } الآيتين { في كتاب } أي مُثبْتٌ في اللوح المحفوظِ بتفاصيله ويجوز أن يكون ذلك تمثيلاً لتمكنه وتقرّره في علم الله عز وجل بما استحفظه العالَم ، وقيده بالكَتَبة كما يلوح به قوله تعالى { لاَّ يَضِلُّ ربّي وَلاَ يَنسَى } أي لا يُخطِئ ابتداءً ولا يذهب علمه بقاءً بل هو ثابتٌ أبداً فإنهما مُحالان عليه سبحانه ، وهو على الأول لبيان أن إثباتَه في اللوح ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداءً أو بقاءً ، وإظهارُ ربي في موقع الإظمار للتلذذ بذكره ولزيادة التقريرِ والإشعار بعلة الحُكم فإن الربوبيةَ مما يقتضي عدمَ الضلالِ والنسيانِ حتماً ، ولقد أجاب عليه الصلاة والسلام عن السؤال بجوا عبقري بديعٍ حيث كشف عن حقيقة الحقِّ حجابَها مع أنه لم يخرُجْ عما كان بصدده من بيان شؤونِه تعالى .