اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰبٖۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (52)

51

52

فإن قيل : العلمُ الذي عند الرب ، كيف يكون في الكتاب ؟ وذلك أن علم الله صفة قائمة به ، فكون صفة الشيء حاصلة في كتاب{[24783]} غير معقول ، فذكروا في الجواب وجهين{[24784]} :

الأول : معناه : أنه تعالى{[24785]} أثبت تلك{[24786]} الأحكام في كتاب عنده ليكون ما كتبه فيه ظاهراً للملائكة ، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات ينزه عن السهو والغفلة ، ولقائل أن يقول : قوله : { فِي كِتَابٍ } يوهم احتياجه سبحانه في العلم إلى ذلك الكتاب ، وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أن يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر ، فكيف يحسن ذكره مع معاندٍ مثل فرعون في وقت الدعوة ؟

الوجه الثاني : أن يفسِّر ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب ، فيكون{[24787]} الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول منها شيء{[24788]} عن علمه ، ويؤكد هذا التفسير قوله بعد ذلك : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى }{[24789]} .

وقيل : إنما ردَّ موسى علم ذلك إلى الله ، لأنه لم يعلم ذلك فإن{[24790]} التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون{[24791]} والمراد بالكتاب : اللوحُ المحفوظ .

قوله : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } في خبر{[24792]} هذا المبتدأ وجوه :

أحدها{[24793]} : أنَّه " عِندَ رَبِّي " وعلى هذا فقوله : { فِي كِتَابٍ } متعلق بما تعلق به الظرف من الاستقرار ، أو{[24794]} متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الظرف ، أو خبر ثان{[24795]} .

الثاني : أن الخبر قوله : { في كتاب } ، فَعَلى هذا قوله : { عند ربي } معمول للاستقرار الذي تعلق به " في كتاب " كما تقدم في عكسه ، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجار الواقع خبراً{[24796]} ، وفيه خلاف أعني تقديم الحال على عاملها المعنوي{[24797]} ، والأخفش يجيزه ويستدل بقراءة{[24798]} : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }{[24799]} وقوله :

رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبي أَدْرَاعِهِمْ{[24800]} *** فِيِهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بن حُذَارِ{[24801]}

وقال بعض النحويين : إنه{[24802]} إذا كان العامل معنوياً والحال ظرف{[24803]} أو عديله حَسُنَ التقديم عند الأخفش وغيره ، وهذا منه{[24804]} ، أو يكون ظرفاً للعلم نفسه ، أو يكون حالاً من المضاف إليه ، وهو الضمير في " عِلْمُهَا " ولا يجوز أن يكون " فِي كِتَابٍ " متعلقاً ب " عِلْمُهَا " {[24805]} على قولنا : إنَّ " عِنْدَ رَبِّي " الخبر ، كما جاز تعلق " عِنْدَ " بِهِ ، لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي{[24806]} وقد تقدم أنه لا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته .

الثالث : أن يكون الظرف وحرف الجر معاً خبراً واحداً في المعنى فيكون بمنزلة : هذا حلوٌ حامضٌ ، قاله أبو البقاء{[24807]} . وفيه نظر إذ كل منهما يستقل بفائدة الخبرية بخلاف هذا حُلْوٌ حامِضٌ . والضمير في " عِلْمُهَا " فيه وجهان : أظهرهما : عوده على " القُرُونِ " {[24808]} والثاني : عوده على القيام لدلالة ذكر " القُرُونِ " على ذلك لأنه سأله{[24809]} عن بعث الأمم ، والبعث يدل على يوم القيامة{[24810]} .

قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } في هذه الجملة وجهان :

أحدهما{[24811]} : أنَّها في محل جر صفة ل " كِتَاب " ، والعائد محذوف تقديره : فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّه رَبِّي ، أو{[24812]} لا يضل حفظَه رَبِّي ، ف " رَبِّي " ، فاعل " يَضِلُّ " على هذا التقدير .

وقيل : تقديره : لا يَضِلُّ{[24813]} الكتابُ رَبِّي ، فيكون في " يَضِلُّ " ضمير يعود على الكتاب ، و " رَبِّي " منصوب على التعظيم{[24814]} ، وكان الأصل عن ربي ، فحذف الحرف اتساعاً .

يقال : ضَلِلْتُ كذا وضَلِلْتُه بفتح اللام وكسرها لغتان مشهورتان وأشهرهما الفتح{[24815]} .

والثاني : أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب -ساقها الله- تعالى{[24816]}- لمجرد الإخبار بذلك حكاية عن موسى{[24817]} .

وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وعيسى الثقفي وابن محيصن وحماد بن سلمة{[24818]} " لا يَضِلُّ " بضم الياء{[24819]} ، أي لا يُضِلُّ رَبِّي الكِتَابَ ، أي : لا يضيعُه ، يقال : أضْلَلْتُ الشيء أي أضعته و " رَبِّي " فاعل على هذا التقدير{[24820]} .

وقيل : تقديره : لا يُضِلُّ أحدٌ رَبِّي عن علمه ، أي من علم الكتاب ، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم{[24821]} . وفرِّق بعضهم بين ضَلَلْت وأَضْلَلْتُ ، فقال{[24822]} : ضَلَلْتُ منزلي بغير ألف ، وأضْلَلْتُ بعيري ونحوه من الحيوان بالألف ، نقل ذلك الرماني{[24823]} عن العرب{[24824]} .

وقال الفراء : يقال : ضَلَلْتُ الشيْءَ إذا أخطأت{[24825]} في مكانه ، وَضَلِلْتُ لغتان ، فلم تهتد له{[24826]} كقوله{[24827]} : ضلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ، ولا يقال : أَضْلَلْتُه إلا إذا ضاع منك كالدابة انفلتت وشبهها{[24828]} .

قوله : { وَلاَ يَنْسَى } في فاعل " يَنْسَى " قولان :

أحدهما : أنه عائد على " رَبِّي " أي : ولا يَنْسَى رَبِّي ما أثبته في الكتاب .

والثاني : أن الفاعل ضمير عائد على " الكِتَابِ " على سبيل المجاز{[24829]} كما أسند إليه الإحصاء مجازاً{[24830]} في قوله : { إلا أحْصَاهَا }{[24831]} لما كان محلاً للإحصاء{[24832]} .

فصل

قال مجاهد{[24833]} في قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } : إن معنى اللفظين واحد أي : لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عنه . وفرق الأكثرون بينهما ، فقال القفال{[24834]} : لا يَضِلُّ عن الأشياء ومعرفتها ، وما عُلِم من ذلك لم ينسه ، فاللفظ الأول إشارة{[24835]} إلى كونه عالماً بكل المعلومات ، وقوله : { وَلاَ يَنْسَى } دليلٌ على بقاء ذلك العلم أبد الآباد ، وهو إشارة إلى نفي التغير .

وقال مقاتل : لا يخطئ ذلك الكتاب رَبِّي ، ولا يَنْسَى ما فيه .

( وقال الحسن : لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه . وقال أبو عمرو : وأصل الضلال الغيبوبة ، والمعنى : لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء .

وقال ابن جرير : لا يُخطئ في التدبير ، فيعتقد فيما ليس بصواب كونه صواباً ، وإذا عرفه لا ينساه{[24836]} ){[24837]} . وكلها متقاربة ، والتحقيق هو الأول{[24838]} . واعلم{[24839]} أن فرعون لمَّا سأل موسى عن الإله فقال : " فَمَنْ{[24840]} رَبُّكُمَا " وكان ذلك ممّا سبيله الاستدلال ، أجاب بالصواب بأوجز عبارة ، وأحسن معنى ، ولما سأله عن القُرون الأولى ، وكان ذلك مما سبيله الإخبار لم يأته خبر من ذلك ، وكلها إلى عالم الغُيوب{[24841]} .


[24783]:في ب: فيكون صفة الشيء في كتاب. وهو تحريف.
[24784]:في ب: فالجواب من وجهين.
[24785]:في ب: الأول: أنه.
[24786]:في ب: ذلك. وهو تحريف.
[24787]:في ب: فيبقى.
[24788]:في ب: شيئا. وهو تحريف.
[24789]:الفخر الرازي 22/67.
[24790]:في ب: لأن.
[24791]:البحر المحيط 6/248.
[24792]:في ب: في تفسير وهو تحريف.
[24793]:في ب: الأول.
[24794]:في ب: و. وهو تحريف.
[24795]:انظر التبيان 2/892.
[24796]:انظر البيان 2/142، التبيان 2/892.
[24797]:تقديم الحال على عاملها المعنوي فيه خلاف بين النحويين: فذهب البصريون إلى منع تقديم الحال على عاملها المعنوي لضعفه نحو: سعيد مستقرا عندك أو في الدار، وما ورد من ذلك مسموعا يحفظ ولا يقاس عليه. وذهب الفراء والأخفش إلى جواز ذلك مطلقا، واستدل على ذلك بقراءة عيسى بن عمر: "والسماوات مطويات بيمينه" بنصب "مطويّات" على الحال، وهي متقدمة على عاملها المعنوي، وقول الشاعر: رهط ابن كوز محقبي أدراعهم *** فيهم ورهط وبيعة بن حذار فـ (محقبي أدراعهم) وقع حالا من (فيهم). وذهب الكوفيون إلى جواز ذلك إذا كانت الحال فيه من مضمر نحو أنت قائما في الدار وقيل: يجوز إن كان الحال ظرفا أو جارا مجرورا. صرح بذلك ابن برهان كما في شرح الكافية، لتوسعهم في الظروف نحو زيد عندك أمامك، أو في الدار أمامك شرح الكافية 1/204 – 205، الأشموني 2/181.
[24798]:عيسى بن عمر، وهي نصب "مطويات". المختصر (131).
[24799]:[الزمر: 67]. والاستشهاد بالقراءة على تقديم الحال على عاملها المعنوي وتأويل المانع بأن "السماوات" عطف على الضمير المستتر في "قبضته" من قوله تعالى {والأرض جميعا قبضته} لأنها بمعنى مقبوضة و"مطويّات" حال من "السماوات" و"بيمينه" ظرف لغو متعلق بـ "مطويات" انظر حاشية الصبان 2/182.
[24800]:في ب: أذراعهم. وهو تصحيف.
[24801]:البيت من بحر الكامل، قاله النابغة الذبياني. رهط الرجل: قومه وقبيلته، ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة. وقد تقدم.
[24802]:أنه: سقط من ب.
[24803]:في ب: والظرف حال.
[24804]:ذكر الرضي أن الأخفش يجوز تقديم الحال على عاملها المعنوي مطلقا، وأن ابن برهان صرح بجواز تقديم الحال على عاملها المعنوي الذي هو ظرف أو جار ومجرور، وذلك لتوسعهم في الظرف حتى جاز أن يقع موضعا لا يقع غيرها فيه نحو قوله تعالى: {إنّ إلينا إيابهم} [الغاشية: 25] فقوله تعالى {علمها عند ربي في كتاب} نرى أن "عند" ظرف وقع حالا وهو متقدم على عامله النحوي وهو جار ومجرور. شرح الكافية 1/204 – 205.
[24805]:انظر التبيان 2/892.
[24806]:وذلك أن المصدر لا يفصل بينه وبين ما عمل فيه بأجنبي، والمراد بالأجنبي أن لا يكون للمصدر فيه عمل، فلو قلت: أعجب ركوب الدابة زيدا عمرو. لم يجز، لأن زيدا أجنبي من المصدر الذي هو الركوب، إذ لم يكن فيه تعلق. وقد فصلت بين المصدر وما عمل فيه. التبيان 2/892، شرح المفصل 6/67.
[24807]:التبيان 2/892 أي من تعدد الخبر في اللفظ دون المعنى، إذ معنى حلو حامض: مزٌّ، وضابطه أن لا يصدق الإخبار ببعضه عن المبتدأ البيان 2/143، شرح الأشموني 1/222.
[24808]:انظر البحر المحيط 6/248.
[24809]:في ب: سأل.
[24810]:البحر المحيط 6/248.
[24811]:في ب: الأول.
[24812]:في ب: و. وهو تحريف.
[24813]:لا يضل: سقط من ب.
[24814]:التبيان 2/892.
[24815]:في اللسان (ضلل): ضللت تضل هذه اللغة الفصيحة، وضللت تضل ضلالا وضلالة، وبنو تميم يقولون: ضللت أضلّ، وضللت أضلّ وأهل الحجاز يقولون: ضللت أضلّ، وأهل نجد يقولون: ضللت أضلّ، وقال الجوهري: لغة نجد هي الفصيحة.
[24816]:في ب: ساقها تبارك وتعالى.
[24817]:القرطبي : 11/208.
[24818]:هو حماد بن سلمة بن دينار أبو سلمة البصري، روى القراءة عرضا عن عاصم وابن كثير، روى عنه الحروف حرمىّ بن عمارة وحجاج بن المنهال وشيبة بن عمرو المصيصي. مات سنة 167 هـ. طبقات القراء 1/258.
[24819]:انظر المختصر (87) والبحر المحيط 6 / 248.
[24820]:التبيان 2/893.
[24821]:التبيان 2/893.
[24822]:في ب: ويقال.
[24823]:هو علي بن عيسى أبو الحسن الرماني، كان إماما في العربية في طبقة الفارسي، والسيرافي، أخذ عن الزجاج وابن السراج وابن دريد، صنف التفسير ، شرح أصول ابن السراج، شرح سيبويه، شرح المقتضب، معاني الحروف وغير ذلك مات سنة 384 هـ. البغية 2/180 – 181.
[24824]:البحر المحيط 6/248.
[24825]:في ب: إذا خطأت.
[24826]:في ب: لذلك.
[24827]:في ب: كما تقول.
[24828]:يبدو أن ابن عادل نقل ما قاله الفراء من البحر المحيط 6/248. دون الرجوع إلى كتاب معاني القرآن للفراء، ونص كلام الفراء: (وتقول: أضللت الشيء إذا ضاع، مثل الناقة والفرس وما انفلت منك وإذا أخطأت الشيء الثابت موضعه مثل الدار والمكان قلت: ضلَلته وضلِلته لغتان، ولا تقل: أضللت ولا أضللته) معاني القرآن 2/181.
[24829]:فإسناد عدم النسيان إلى الكتاب استعارة.
[24830]:كذا في ب، وفي الأصل: مجاز.
[24831]:من قوله تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49].
[24832]:انظر البحر المحيط 6/249.
[24833]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/67.
[24834]:في ب: فقال الفراء، وهو تحريف.
[24835]:إشارة: سقط من ب.
[24836]:انظر جامع البيان.
[24837]:ما بين القوسين سقط من ب.
[24838]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/67.
[24839]:في ب: فصل واعلم.
[24840]:في ب: من.
[24841]:انظر الفخر الرازي 22/67.