فإن قيل : العلمُ الذي عند الرب ، كيف يكون في الكتاب ؟ وذلك أن علم الله صفة قائمة به ، فكون صفة الشيء حاصلة في كتاب{[24783]} غير معقول ، فذكروا في الجواب وجهين{[24784]} :
الأول : معناه : أنه تعالى{[24785]} أثبت تلك{[24786]} الأحكام في كتاب عنده ليكون ما كتبه فيه ظاهراً للملائكة ، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات ينزه عن السهو والغفلة ، ولقائل أن يقول : قوله : { فِي كِتَابٍ } يوهم احتياجه سبحانه في العلم إلى ذلك الكتاب ، وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أن يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر ، فكيف يحسن ذكره مع معاندٍ مثل فرعون في وقت الدعوة ؟
الوجه الثاني : أن يفسِّر ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب ، فيكون{[24787]} الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول منها شيء{[24788]} عن علمه ، ويؤكد هذا التفسير قوله بعد ذلك : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى }{[24789]} .
وقيل : إنما ردَّ موسى علم ذلك إلى الله ، لأنه لم يعلم ذلك فإن{[24790]} التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون{[24791]} والمراد بالكتاب : اللوحُ المحفوظ .
قوله : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } في خبر{[24792]} هذا المبتدأ وجوه :
أحدها{[24793]} : أنَّه " عِندَ رَبِّي " وعلى هذا فقوله : { فِي كِتَابٍ } متعلق بما تعلق به الظرف من الاستقرار ، أو{[24794]} متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الظرف ، أو خبر ثان{[24795]} .
الثاني : أن الخبر قوله : { في كتاب } ، فَعَلى هذا قوله : { عند ربي } معمول للاستقرار الذي تعلق به " في كتاب " كما تقدم في عكسه ، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجار الواقع خبراً{[24796]} ، وفيه خلاف أعني تقديم الحال على عاملها المعنوي{[24797]} ، والأخفش يجيزه ويستدل بقراءة{[24798]} : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }{[24799]} وقوله :
رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبي أَدْرَاعِهِمْ{[24800]} *** فِيِهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بن حُذَارِ{[24801]}
وقال بعض النحويين : إنه{[24802]} إذا كان العامل معنوياً والحال ظرف{[24803]} أو عديله حَسُنَ التقديم عند الأخفش وغيره ، وهذا منه{[24804]} ، أو يكون ظرفاً للعلم نفسه ، أو يكون حالاً من المضاف إليه ، وهو الضمير في " عِلْمُهَا " ولا يجوز أن يكون " فِي كِتَابٍ " متعلقاً ب " عِلْمُهَا " {[24805]} على قولنا : إنَّ " عِنْدَ رَبِّي " الخبر ، كما جاز تعلق " عِنْدَ " بِهِ ، لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي{[24806]} وقد تقدم أنه لا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته .
الثالث : أن يكون الظرف وحرف الجر معاً خبراً واحداً في المعنى فيكون بمنزلة : هذا حلوٌ حامضٌ ، قاله أبو البقاء{[24807]} . وفيه نظر إذ كل منهما يستقل بفائدة الخبرية بخلاف هذا حُلْوٌ حامِضٌ . والضمير في " عِلْمُهَا " فيه وجهان : أظهرهما : عوده على " القُرُونِ " {[24808]} والثاني : عوده على القيام لدلالة ذكر " القُرُونِ " على ذلك لأنه سأله{[24809]} عن بعث الأمم ، والبعث يدل على يوم القيامة{[24810]} .
قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } في هذه الجملة وجهان :
أحدهما{[24811]} : أنَّها في محل جر صفة ل " كِتَاب " ، والعائد محذوف تقديره : فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّه رَبِّي ، أو{[24812]} لا يضل حفظَه رَبِّي ، ف " رَبِّي " ، فاعل " يَضِلُّ " على هذا التقدير .
وقيل : تقديره : لا يَضِلُّ{[24813]} الكتابُ رَبِّي ، فيكون في " يَضِلُّ " ضمير يعود على الكتاب ، و " رَبِّي " منصوب على التعظيم{[24814]} ، وكان الأصل عن ربي ، فحذف الحرف اتساعاً .
يقال : ضَلِلْتُ كذا وضَلِلْتُه بفتح اللام وكسرها لغتان مشهورتان وأشهرهما الفتح{[24815]} .
والثاني : أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب -ساقها الله- تعالى{[24816]}- لمجرد الإخبار بذلك حكاية عن موسى{[24817]} .
وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وعيسى الثقفي وابن محيصن وحماد بن سلمة{[24818]} " لا يَضِلُّ " بضم الياء{[24819]} ، أي لا يُضِلُّ رَبِّي الكِتَابَ ، أي : لا يضيعُه ، يقال : أضْلَلْتُ الشيء أي أضعته و " رَبِّي " فاعل على هذا التقدير{[24820]} .
وقيل : تقديره : لا يُضِلُّ أحدٌ رَبِّي عن علمه ، أي من علم الكتاب ، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم{[24821]} . وفرِّق بعضهم بين ضَلَلْت وأَضْلَلْتُ ، فقال{[24822]} : ضَلَلْتُ منزلي بغير ألف ، وأضْلَلْتُ بعيري ونحوه من الحيوان بالألف ، نقل ذلك الرماني{[24823]} عن العرب{[24824]} .
وقال الفراء : يقال : ضَلَلْتُ الشيْءَ إذا أخطأت{[24825]} في مكانه ، وَضَلِلْتُ لغتان ، فلم تهتد له{[24826]} كقوله{[24827]} : ضلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ، ولا يقال : أَضْلَلْتُه إلا إذا ضاع منك كالدابة انفلتت وشبهها{[24828]} .
قوله : { وَلاَ يَنْسَى } في فاعل " يَنْسَى " قولان :
أحدهما : أنه عائد على " رَبِّي " أي : ولا يَنْسَى رَبِّي ما أثبته في الكتاب .
والثاني : أن الفاعل ضمير عائد على " الكِتَابِ " على سبيل المجاز{[24829]} كما أسند إليه الإحصاء مجازاً{[24830]} في قوله : { إلا أحْصَاهَا }{[24831]} لما كان محلاً للإحصاء{[24832]} .
قال مجاهد{[24833]} في قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } : إن معنى اللفظين واحد أي : لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عنه . وفرق الأكثرون بينهما ، فقال القفال{[24834]} : لا يَضِلُّ عن الأشياء ومعرفتها ، وما عُلِم من ذلك لم ينسه ، فاللفظ الأول إشارة{[24835]} إلى كونه عالماً بكل المعلومات ، وقوله : { وَلاَ يَنْسَى } دليلٌ على بقاء ذلك العلم أبد الآباد ، وهو إشارة إلى نفي التغير .
وقال مقاتل : لا يخطئ ذلك الكتاب رَبِّي ، ولا يَنْسَى ما فيه .
( وقال الحسن : لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه . وقال أبو عمرو : وأصل الضلال الغيبوبة ، والمعنى : لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء .
وقال ابن جرير : لا يُخطئ في التدبير ، فيعتقد فيما ليس بصواب كونه صواباً ، وإذا عرفه لا ينساه{[24836]} ){[24837]} . وكلها متقاربة ، والتحقيق هو الأول{[24838]} . واعلم{[24839]} أن فرعون لمَّا سأل موسى عن الإله فقال : " فَمَنْ{[24840]} رَبُّكُمَا " وكان ذلك ممّا سبيله الاستدلال ، أجاب بالصواب بأوجز عبارة ، وأحسن معنى ، ولما سأله عن القُرون الأولى ، وكان ذلك مما سبيله الإخبار لم يأته خبر من ذلك ، وكلها إلى عالم الغُيوب{[24841]} .