التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَنشَرۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةٗ مَّيۡتٗاۚ كَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ} (11)

انتقل من الاستدلال والامتنان بخلق الأرض إلى الاستدلال والامتنان بخلق وسائل العيش فيها ، وهو ماء المطر الذي به تُنبت الأرض ما يصلح لاقتيات الناس .

وأعيد اسم الموصول للاهتمام بهذه الصلة اهتماماً يجعلها مستقلة فلا يخطر حضورها بالبال عند حظور الصلتين اللتين قبلها فلا جامع بينها وبينهما في الجامع الخيالي . وتقدم الكلام على نظيره في سورة الرعد وغيرها فأعيد اسم الموصول لأن مصداقه هو فاعل جميعها .

والإنشاء : الإحياء كما في قوله : { ثمّ إذا شاء أنشره } [ عبس : 22 ] .

وعن ابن عباس أنه أنكر على من قرأ { كيف نَنْشُرها } [ البقرة : 259 ] بفتح النون وضم الشين وتلا { ثم إذا شاء أَنْشَرَهُ } [ عبس : 22 ] فأصل الهمزة فيه للتعدية وفعله المجرد نشر بمعنى حَيِيَ ، يقال : نَشر الميتُ ، برفع الميت قال الأعشى :

حتى يقول النّاس مما رأوا *** يا عَجَبَاً للميّتِ النَاشِرِ

وأصل النشر بسْط ما كان مطوياً وتفرعت من ذلك معاني الإعادة والانتشار .

والنشر هنا مجاز لأن الإحياء للأرض مجاز ، وزاده حسناً هنا أن يكون مقدمة لقوله : { كذلك تخرجون } .

وضمير { فأنشرنا } التفات من الغيبة إلى التكلم . والميّت ضدّ الحي . ووصف البلدة به مجاز شائع قال تعالى : { وآية لهم الأرض الميّتة أحييناها } [ يس : 33 ] .

وإنما وصفت البلدة وهي مؤنث بالميت وهو مُذكّر لكونه على زنة الوصف الذي أصله مَصدر نحو : عَدْل وزَوْر فحسن تجريده من علامة التأنيث على أن الموصوف مجازي التأنيث .

وجملة { كذلك تخرجون } معترضة بين المتعاطفين وهو استطراد بالاستدلاللِ على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من إثبات البعث ، بمناسبة الاستدلال على تفرد الله بالإلهية بدلائل في بعضها دلالة على إمكان البعث وإبطال إحالتهم إياه . والإشارة بذلك إلى الانتشار المأخوذ من { فأنشرنا } ، أي مثل ذلك الانتشار تُخرجون من الأرض بعد فنائكم ، ووجه الشبه هو إحداث الحي بعد موته . والمقصود من التشبيه إظهار إمكان المشبه كقول أبي الطيب :

فإن تفق الأنامَ وأنتَ منهم *** فإنَّ المِسك بعضُ دَمِ الغزال

وقرأ الجمهور { تُخرجون } بالبناء للنائب . وقرأه حمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر { تَخرُجون } بالبناء للفاعل والمعنى واحد .