التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَإِن كَانَ طَآئِفَةٞ مِّنكُمۡ ءَامَنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦ وَطَآئِفَةٞ لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ فَٱصۡبِرُواْ حَتَّىٰ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ بَيۡنَنَاۚ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ} (87)

{ الطائفة } الجماعة ذاتُ العدد الكثير وتقدّمت عند قوله تعالى : { فلتقُم طائفة منهم معك } في سورة النّساء ( 102 ) .

والشّرط في قوله : { وإن كان طائفة } أفاد تعليق حصول مضمون الجزاء في المستقبل ، أعني ما تضمّنه الوعيد للكافرين به والوعدُ للمؤمنين ، على تحقّق حصول مضمون فعل الشّرط ، لا على ترقّب حصول مضمونه ، لأنّه معلوم الحصول ، فالماضي الواقع فعلاً للشّرط هنا ماض حقيقي وليس مؤولاً بالمستقبل ، كما هو الغالب في وقوع الماضي في سياق الشّرط بقرينة كونه معلوم الحصول ، وبقرينة النّفي بلم المعطوف على الشّرط فإنّ ( لَمْ ) صَريحة في المضيّ ، وهذا مثل قوله تعالى : { إنْ كنتُ قلتُه فقد علمتَهُ } [ المائدة : 116 ] بقرينة . ( قد ) إذ الماضي المدخول لقد لا يقلب إلى معنى المستقبل . فالمعنى : إن تبيَّن أن طائفة آمنوا وطائفة كفروا فسيحكم الله بيننا فاصبروا حتّى يحكم ويَؤول المعنى : إن اختلفتم في تصديقي فسيظهر الحكم بأنّي صادق .

وليست ( إنْ ) بمفيدة الشكّ في وقوع الشّرط كما هو الشان ، بل اجْتلبت هنا لأنّها أصل أدوات الشّرط ، وإنَّما يفيد معنى الشكّ أو ما يَقرب منه إذا وقع العدول عن اجتلاب ( إذَا ) حين يصحّ اجتلابها ، فأمّا إذا لم يصحّ اجتلاب ( إذا ) فلا تدلّ ( إنْ ) على شكّ وكيفَ تفيد الشكّ مع تحقّق المضي ، ونظيره قول النّابغة :

لَئِنْ كنتَ قد بُلِّغْتَ عنّي وشَايَةً *** لَمُبْلغكَ الواشي أغَشّ وأكذب

والصّبر : حبس النّفس في حال التّرقب ، سواء كان ترقب محبوب أم ترقب مكروه ، وأشهر استعماله أن يطلق على حبس النّفس في حال فقدان الأمر المحبوب ، وقد جاء في هذه الآية مستعملاً في القدْر المشترك لأنّه خوطب به الفريقان : المؤمنون والكافرون ، وصبر كلّ بما يناسبه ، ولعلّه رجح فيه حال المؤمنين ، ففيه إيذان بأنّ الحكم المترقّب هو في منفعة المؤمنين ، وقد قال بعض المفسّرين : إنّه خطاب للمؤمنين خاصة .

و { حتّى } تفيد غاية للصّبر ، وهي مؤذنة بأن التّقدير : وإن كان طائفة منكم آمنوا وطائفة لم يؤمنوا فسيحكم الله بيْننا فاصبروا حتّى يحكم .

وحكم الله أريد به حكم في الدّنيا بإظهار أثر غضبه على أحد الفريقين ورضاه على الذين خالفوهم ، فيظهر المحقّ من المبطل ، وهذا صدر عن ثقة شّعيب عليه السّلام بأنّ الله سيحكم بينه وبين قومه استناداً لوعد الله إياه بالنَّصْر على قومه ، أو لعلمه بسنّة الله في رسله ومَن كذّبهم بإخبار الله تعالى إياه بذلك ، ولولا ذلك لجاز أن يتأخر الحكم بين الفريقين إلى يوم الحساب ، وليس هو المراد من كلامه لأنّه لا يناسب قوله : { فاصبروا } إذا كان خطاباً للفريقين ، فإن كان خطابا للمؤمنين خاصة صحّ إرادة الحُكمين جميعاً .

وأدْخَل نفسه في المحكوم بينهم بضمير المشاركة لأنّ الحكم المتعلّق بالفريق الذين آمنوا به يعتبر شاملاً له لأنّه مؤمن برسالة نفسه .

وجملة : { وهو خير الحاكمين } تذييل بالثّناء على الله بأنّ حكمه عَدْل محض لا يحتمل الظلم عَمداً ولا خطأ ، وغيره من الحاكمين يقع منه أحد الأمرين أو كلاهما .

و { خير } : اسم تفضيل أصله أخْيَر فخفّفوه لكثرة الاستعمال .