التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ} (38)

استئناف بياني يبين للسامع عقبى الاختيار الذي في قوله : { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } [ المدثر : 37 ] أي كل إنسان رَهْن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم .

و { رهينة } : خبر عن { كل نفس } وهو بمعنى مرهونة .

والرهن : الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدَيْن ، وقد يطلق على الملازمة والمقارنة ، ومنه : فَرَسا رِهَاننٍ ، وكِلا المعنيين يصح الحمل عليه هنا على اختلاف الحال ، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت منه المحْقوق به ، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضماناً لئلا يخيس القومُ بشروط الصلح وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن .

وبهذا يكون قوله : { كل نفس } مراداً به خصوص أنفس المنذَرين من البشر فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة ، أي قرينة ما تعطيه مادة رَهينة من معنى الحَبس والأسر .

والباء للمصاحبة لا للسببية .

وظاهر هذا أنه كلام منصف وليس بخصوص تهديدِ أهل الشر .

و { رهينة } : مصدر بوزن فَعِيلة كالشَّتيمة فهو من المصادر المقترنة بهاء كهاء التأنيث مثل الفُعولة والفعالة ، وليس هو من باب فعيل الذي هو وصف بمعنى المفعول مثيل قتيلة ، إذ لو قصد الوصف لقيل رعين لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوفه كما هنا ، والإِخبار بالمصدر للمبالغة على حد قول مِسْوَر بن زيادة الحارثي :

أبَعْدَ الذي بالنَّعْفِ نَعْفِ كُوَيكِبٍ *** رهينةِ رَمْس ذي تراب وجندل

ألا تراه أثبت الهاء في صفة المذكر وإلاّ لما كان موجب للتأنيث .