التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذۡكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلٗا} (29)

استئناف ابتدائي للانتقال من بسط التذكير والاستدلال إلى فذلكة الغرض وحوصلته ، إشعاراً بانتهاء المقصود وتنبيهاً إلى فائدته ، ووجه الانتفاع به ، والحث على التدبر فيه ، واستثمار ثمرته ، وباعتبار ما تفرع عن هذه الجملة من قوله : { فمن شاء اتخذ } الخ يقوَى موقع الفذلكة للجملة وتأكيد الكلام بحرف { إن } لأن حال المخاطبين عدم اهتمامهم بها فهم ينكرون أنها تذكرة .

والإِشارة إلى الآيات المتقدمة أو إلى السورة ولذلك أُتي باسم الإِشارة المؤنث .

والتذكرة : مصدر ذَكَّره ( مثل التزكية ) ، أي أكلمه كلاماً يذكره به ما عسى أن يكون نسيه أطلقت هنا على الموعظة بالإِقلاع عن عمل سيِّىء والإِقبال على عمل صالح وعلى وضوح الخير والشر لمن تذكر ، أي تبصر بتشبيه حالة المعرض عن الخير المشغول عنه بحالة الناسي له لأن شأنه ألا يُفرِّط فيه إلاّ من كان ناسياً لما فيه من نفع له .

وفرع عليه الحث على سلوك سبيل مرضاة الله بقوله : { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } ، أي ليس بعد هذه التذكرة إلاّ العمل بها إذا شاء المتذكر أن يعمل بها .

ففي قوله : { مَن شاء } حثّ على المبادرة بذلك لأن مشيئة المرء في مكنته فلا يمنعه منها إلاّ سوء تدبيره .

وهذا حثّ وتحريض فيه تعريض بالمشركين بأنهم أبَوا أن يتذكروا عناداً وحسداً .

واتخاذ السبيل : سلوكه ، عُبّر عن السلوك بالاتخاذ على وجه الاستعارة بتشبيه ففي قوله : { اتَّخَذ إلى ربه سبيلاً } استعارتان لأن السبيل مستعار لسبب الفوز بالنعيم والزُّلفى .

ويتعلق قوله : { إلى ربه } ب { سبيلاً } ، أي سبيلاً مُبلغة إلى الله ، ولا يختلف العقلاء في شرف ما يوصل إلى الرب ، أي إلى إكرامه لأن ذلك قَرارة الخيرات ولذلك عبر برب مضافاً إلى ضمير { من شاء } إذ سعادة العبد في الحظوة عند ربه .

وهذه السبيل هي التوبة فالتائب مِثل الذي كان ضالاً ، أو آبقاً فاهتدى إلى الطريق التي يرجع منها إلى مقصده ، أو سلك الطريق إلى مولاه .

وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة المزمل .