اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ هَٰذِهِۦ تَذۡكِرَةٞۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ سَبِيلٗا} (29)

قوله تعالى : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } . أي : هذه السورة موعظة ، { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } أي : طريقاً موصِّلاً إلى طاعته .

وقيل : «سبيلاً » أي وسيلة .

وقيل : وجهة وطريقة إلى الخير والمعنى : أنّ هذه السورة لما فيها من الترتيب العجيب ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب تذكرة للمتأملين وتبصرة للمتبصرين .

فصل في قول الجبرية

قال ابن الخطيب{[58978]} : متى ضمت هذه الآية إلى الآية بعدها خرج منهما صريح مذهب الجبر ، لأن قوله تعالى : { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } الآية يقتضي أن مشيئة العبد متى كانت خالصة ، فإنها تكون مستلزمة للفعل ، وقوله تعالى بعد ذلك : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } يقتضي كون مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ، ومستلزم المستلزم مستلزم ، فإن مشيئة الله - تعالى - مستلزمة لفعل العبد ، وذلك هو الجبر ، وكذا الاستدلال على الجبر بقوله تعالى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] ، لأن هذه الآية أيضاً تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ، ثم التقدير ما تقدم .

قال القاضي : المذكور هاهنا اتخاذ السبيل إلى الله - تعالى - وهو أمر قد شاءه ؛ لأنه أمر به فلا بد وأن يكون قد شاءه ، وهذا لا يقضي أن يقال : العبد لا يشاء إلاَّ ما قد شاء الله على الإطلاق إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أن الله تعالى أراده وشاءه . وهذا الكلام لا تعلق له بالاستدلال الذي ذكرناه ، فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص العام بالصُّور المتقدمة ، وذلك ضعيف لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية وارداً بحيث تعمّ تلك الصورة وغيرها .

قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال ، أي إلاَّ في حال مشيئة الله تعالى . قاله أبو البقاء .

وفيه نظر : لأن هذا مقدر بالمعرفة إلا أن يريد تفسير المعنى .

والثاني : أنه ظرف .

قال الزمخشري : «فإن قلت : ما محل أن يشاء الله ؟ .

قلت : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله تعالى ، وكذلك قرأ ابن مسعود{[58979]} : إلا ما يشاء الله ، لأن «ما » مع الفعل ك «إن » معه » .

وردّ أبو حيان{[58980]} : بأنه لا يقوم مقام الظرف إلاَّ المصدر الصريح ، لو قلت : أجيئك أن يصيح الديك ، أو ما يصيح ، لم يجز . قال شهاب الدين{[58981]} : قد تقدم الكلام في ذلك مراراً .

وقرأ نافع والكوفيون : «تشاءون » خطاباً لسائر الخلق ، أو على الالتفات من الغيبة في قوله تعالى : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ } ، والباقون{[58982]} : بالغيبة جرياً على قوله : «خلقناهم » وما بعده .


[58978]:ينظر الفخر الرازي 30/230.
[58979]:ينظر: الكشاف 4/676، والمحرر الوجيز 5/415.
[58980]:ينظر: البحر المحيط 8/402.
[58981]:الدر المصون 6/452.
[58982]:ينظر: السبعة 665، والحجة 6/367، وإعراب القراءات 2/424 -425- 425، وحجة القراءات 741.