و { كلا } في قوله تعالى : { كلا إنهم على ربهم } يصلح فيها الوجهان اللذان تقدم ذكرهما ، والضمير في قوله : { إنهم عن ربهم } هو للكفار ، قال بالرؤية وهو قوله أهل السنة ، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم فهم محجوبون عنه ، واحتج بهذه الآية مالك بن أنس عن مسألة الرؤية من جهة دليل الخطاب وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصص ، وقال الشافعي : لما حجب قوم بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضى ، ومن قال بأن لا رؤية وهو قول المعتزلة ، قال في هذه الآية : إنهم محجوبون عن رحمة ربهم وغفرانه .
و { كلاّ } الثانية تأكيد ل { كلا } الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخاً .
{ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } .
جملة : { إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون } وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة ، والعذاب ، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب .
فأما الإهانة فحجْبُهم عن ربهم ، والحجب هو الستر ، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم ، قال الشاعر الذي لم يسمّ وهو من شواهد « الكشاف »
إذا اعتروا باب ذي عُبِّيَّه رجِبوا *** والناسُ من بين مَرجوب ومَحْجوب
وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان .
ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار : { على الأرائك ينظرون } [ المطففين : 23 ] وكذلك أيضاً لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء } [ الأعراف : 40 ] ، وليكون الكلام مفيداً للمعنيين قيل : « عن ربهم لمحجوبون » دون أن يقال : عن رؤية ربهم ، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران ( 77 ) : { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } .
- مكي: قال مالك رحمه الله، في هذا دليل على أن ثم قوما لا يحجبون عن الله وينظرون إليه.
- القرطبي: قال مالك بن أنس في هذه الآية: لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ما الأمر كما يقول هؤلاء المكذّبون بيوم الدين، من أن لهم عند الله زُلْفة، إنهم يومئذٍ عن ربهم لمحجوبون، فلا يرونه، ولا يرون شيئا من كرامته يصل إليهم. وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"إنّهُمْ عَنْ رَبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: إنهم محجوبون عن كرامته...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنهم محجوبون عن رؤية ربهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء القوم أنهم عن رؤيته محجوبون. ويُحتمل أن يكون مرادا به الحجاب عن كرامته، وأن يكون مرادا به الحجاب عن ذلك كله، ولا دلالة في الآية تدلّ على أنه مراد بذلك الحجاب عن معنى منه دون معنى، ولا خبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت حجته. فالصواب أن يقال: هم محجوبون عن رؤيته، وعن كرامته، إذ كان الخبر عاما، لا دلالة على خصوصه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف في قوله: {يومئذ} فذكر أبو بكر الأصم أن هذا في الدنيا؛ يقول: إنهم حجبوا عن عبادة ربهم بما عبدوا غير الله تعالى، فصارت عبادتهم غير الله حجابا عن عبادته. وذكر أهل التفسير أن هذا في الآخرة؛ ثم منهم من يقول: إنهم حجبوا عن لقاء ربهم، وأوجبوا بهذا القول الرؤية للمؤمنين، ومنهم من يقول: هم محجوبون، أي عن كرامته التي أعدها لأوليائه وعن رحمته، فعوقبوا بالحجب عن ذلك جزاء لصنيعهم، لأنهم في الدنيا ضيعوا نعم الله تعالى، فلم يتقبلوها بالشكر، ولم يؤمنوا برسوله الذي بعثه رحمة للعالمين، فأبلسوا من رحمته وكرامته في الآخرة عقوبة لهم ومجازاة، وهو كقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] أي جعلهم كالشيء المنسي الذي لا يعبأ به، فعلى ما وجد منهم من المعاملة لآياته وحججه بتركهم الالتفات إليها عوملوا بمثله في الآخرة، وكقوله في آية أخرى: {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} [طه: 125]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وكونهم محجوبين عنه: تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم...
قال مقاتل: معنى الآية أنهم بعد العرض والحساب، لا يرون ربهم، والمؤمنون يرون ربهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا. وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة.. فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه الله الكريم، وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى، التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها. ممن قال فيهم في سورة القيامة: (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة).. وهذا الحجاب عن ربهم، عذاب فوق كل عذاب، وحرمان فوق كل حرمان. ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {كلاّ} الثانية تأكيد ل {كلا} الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخاً...
جملة: {إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة، والعذاب، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب. فأما الإهانة فحجْبُهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم،... وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان. ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار: {على الأرائك ينظرون} [المطففين: 23] وكذلك أيضاً لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء} [الأعراف: 40]، وليكون الكلام مفيداً للمعنيين قيل: « عن ربهم لمحجوبون» دون أن يقال: عن رؤية ربهم، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران (77): {ولا ينظر إليهم يوم القيامة}...
الران هو الحجاب الذي يأتي على القلب، فكأن الذي لا يريد أن يحجب عن ربه لا يحجب قلبه، ومن يحجب قلبه فسيحجب عن ربه، لأن القلب هو محل الاعتقاد واليقين، فعندما تحجبه بالإثم والاعتداء والمعاصي فإنك تحجب عن ربك.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويستمر البيان القرآني: (كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون). وهو أشدّ ما سيعاقبون به، مثلما منزلة اللقاء باللّه ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذةً واستئناساً. «كلاّ»: عادةً ما تستعمل لنفي ما قيل سابقاً، وللمفسرين أقوال في تفسيرها: القول الأوّل: إنّها تأكيد ل «كلاّ» المتقدمة في الآية السابقة، أي: يوم القيامة ليس بأُسطورة كما يزعمون. والقول الثّاني: «كلاّ» بمعنى لا يمكن إزالة الرين الذي فقأ البصيرة في قلوبهم، فهم محرومون من رؤية جمال الحقّ في هذا العالم وفي عالم الآخرة أيضاً...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.