اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ لَّمَحۡجُوبُونَ} (15)

قوله تعالى «{ كَلاَّ إِنَّهُمْ } .

قال الزمخشريُّ{[59592]} : «كلاَّ » ردع عن الكسب الرَّائن على قلوبهم .

وقال القفالُ{[59593]} : إنَّ الله - تعالى - حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم ، أنه كان يقول : إن كانت الآخرة حقًّا ، فإن الله - تعالى - يعطيه مالاً وولداً ، ثم كذَّبه الله - تعالى - بقوله : { أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 78 ] .

وقال أيضاً : { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } [ الكهف : 36 ] { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] ، فلمَّا تكرَّر ذكره في القرآن ، ترك الله ذكره - هاهنا - وقال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } أي : ليس الأمر كما يقولون من أن لهم في الآخرة الحسنى ، بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . وقال ابن عباس أيضاً : «كلاَّ » يريد لا يصدقون ثم أستأنف فقال : { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }{[59594]} وقيل : قوله تعالى : «كلاّ »َ تكرير ، وتكون «كلاَّ » هذه المذكورة في قوله : «كلا » ، بل ران على قلوبهم .

قوله : { عَن رَّبِّهِمْ } . متعلق بالخبر ، وكذلك «يومئذ » ، والتنوين عوض عن جملة ، تقديرها : «يوم إذْ يقوم الناس » ؛ لأنه لم يناسب إلا تقديرها .

فصل في حجب الكفار عن رؤية ربهم

قال أكثر المفسرين : محجوبون عن رؤيته ، وهذا يدل على أن المؤمنين يرون ربهم - سبحانه وتعالى - ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة .

وأيضاً فإنه - تعالى - ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد ، والتهديد للكفار ، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفَّار لا يجوز حصوله للمؤمنين ، وأجاب المعتزلة عن هذا بوجوه :

أحدها : قال الجبائي{[59595]} : المراد أنهم محجوبون عن رحمة ربهم أي : ممنوعون كما تحجب الأم بالإخوة من الثُّلث إلى السُّدس ، ومن ذلك يقال لمن منع من الدخول : حاجب .

وثانيها : قال أبو مسلم : «لمحجوبون » غير مقربِّين ، والحجاب : الرَّدُ ، وهو ضد القبول ، فالمعنى : أنهم غير مقبولين عند الرؤية ، فإنه يقال : حُجِبَ عن الأمير ، وإن كان قد رآه عن بعدٍ ، بل يجب أن يحمل على المنع من رحمته .

وثالثها{[59596]} : قال الزمخشريُّ{[59597]} : كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ؛ لأنه لا يرد على الملوك إلا المكرَّمين لديهم ، ولا يُحجب عنهم إلا المبانون عنهم .

والجواب : أن الحجب في استعمالاته مشترك في المنع ، فيكون حقيقة فيه ، ومنع العبد بالنسبة إلى الله تعالى ، إمَّا عن العلم ، وإمَّا عن الرؤية ، والأول : باطل ؛ لأن الكفَّار يعلمون الله تعالى ، فوجب حمله على الرؤية .

وأمَّا الوجوه المذكورة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل ، ويؤيد ما قلنا : أقوال السَّلف من المفسرين :

قال مقاتلٌ : بل لا يرون ربَّهم بعد الحساب ، والمؤمنون يرون ربهم .

وقال الكلبيُّ : محجوبون عن رؤية ربهم والمؤمن لا يحجبُ{[59598]} ، وسُئلَ مالكُ بنُ أنسٍ - رضي الله عنه - عن هذه الآية ، فقال : كما حجب الله تعالى أعداءه فلم يروهُ ، ولا بد أن يتجلَّى لأوليائه حتى يروه .

وعن الشَّافعيُّ - رحمه الله - كما حجب قومٌ بالسُّخطِ دلَّ على أنهم يرونهُ بالرضا .


[59592]:ينظر الكشاف 4/721- 722.
[59593]:ينظر الرازي 31/78.
[59594]:ذكره البغوي (4/460).
[59595]:ينظر: الفخر الرازي 31/87.
[59596]:في أ: رابعها.
[59597]:ينظر: الكشاف 4/722.
[59598]:ذكره الرازي في "تفسيره" (31/88) عن الكلبي.