مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ لَّمَحۡجُوبُونَ} (15)

أما قوله تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } فاعلم أنهم ذكروا في { كلا } وجوها ( أحدها ) : قال صاحب «الكشاف » : { كلا } ردع عن الكسب الرائن عن قلوبهم ( وثانيها ) : قال القفال : إن الله تعالى حكى في سائر السور عن هذا المعتدي الأثيم أنه كان يقول إن كانت الآخرة حقا ، فإن الله تعالى يعطيه مالا وولدا ، ثم إنه تعالى كذبه في هذه المقالة فقال : { أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا } وقال : { وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربى إن لي عنده للحسنى } ولما كان هذا مما قد تردد ذكره في القرآن ترك الله ذكره ههنا وقال : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } أي ليس الأمر كما يقولون : من أن لهم في الآخرة حسنى بل هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون

( وثانيها ) : أن يكون ذلك تكريرا وتكون { كلا } هذه هي المذكورة في قوله : { كلا بل ران } أما قوله : { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } فقد احتج الأصحاب على أن المؤمنين يرونه سبحانه قالوا : ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة ، وفيه تقرير آخر وهو أنه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض الوعيد والتهديد للكفار ، وما يكون وعيدا وتهديدا للكفار لا يجوز حصوله في حق المؤمن ، فوجب أن لا يحصل هذا الحجاب في حق المؤمن أجابت المعتزلة عن هذا من وجوه ( أحدها ) : قال الجبائي : المراد أنهم عن رحمة ربهم محجوبون أي ممنوعون ، كما يقال في الفرائض : الإخوة يحجبون الأم على الثلث ، ومن ذلك يقال : لمن يمنع عن الدخول هو حاجب ، لأنه يمنع من رؤيته ( وثانيها ) : قال أبو مسلم : { لمحجوبون } أي غير مقربين ، والحجاب الرد وهو ضد القبول ، والمعنى هؤلاء المنكرون للبعث غير مقبولين عند الله وهو المراد من قوله تعالى : { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم } ( وثالثها ) : قال القاضي : الحجاب ليس عبارة عن عدم الرؤية ، فإنه قد يقال : حجب فلان عن الأمير ، وإن كان قد رآه من البعد ، وإذا لم يكن الحجاب عبارة عن عدم الرؤية سقط الاستدلال ، بل يجب أن يحمل على صيرورته ممنوعا عن وجدان رحمته تعالى ( ورابعها ) : قال صاحب «الكشاف » : كونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للمكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا المهانون عندهم ( والجواب ) : لا شك أن من منع من رؤية شيء يقال : إنه حجب عنه ، وأيضا من منع من الدخول على الأمير يقال : إنه حجب عنه ، وأيضا يقال الأم حجبت عن الثلث بسبب الإخوة ، وإذا وجدنا هذه الاستعمالات وجب جعل اللفظ حقيقة في مفهوم مشترك بين هذه المواضع دفعا للاشتراك في اللفظ ، وذلك هو المنع . ففي الصورة الأولى حصل المنع من الرؤية ، وفي الثانية حصل المنع من الوصول إلى قربه ، وفي الثالثة : حصل المنع من استحقاق الثلث ، فيصير تقدير الآية : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لممنوعون ، والمنع إنما يتحقق بالنسبة إلى ما يثبت للعبد بالنسبة إلى الله تعالى ، وهو إما العلم ، وإما الرؤية ، ولا يمكن حمله على العلم ، لأنه ثابت بالاتفاق للكفار ، فوجب حمله على الرؤية . أما صرفه إلى الرحمة فهو عدول عن الظاهر من غير دليل ، وكذا ما قاله صاحب «الكشاف » : ترك للظاهر من غير دليل ، ثم الذي يؤكد ما ذكرناه من الدليل أقوال المفسرين . قال مقاتل : معنى الآية أنهم بعد العرض والحساب ، لا يرون ربهم ، والمؤمنون يرون ربهم ، وقال الكلبي : يقول إنهم عن النظر إلى رؤية ربهم لمحجوبون ، والمؤمن لا يحجب عن رؤية ربه ، وسئل مالك بن أنس عن هذه الآية ، فقال : لما حجب أعداءه فلم يروه لابد وأن يتجلى لأوليائه حتى يروه ، وعن الشافعي لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا