المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَيَبۡسُطُهُۥ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ يَشَآءُ وَيَجۡعَلُهُۥ كِسَفٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦۖ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ} (48)

«الإثارة » تحريكها من سكونها وتسييرها ، وبسطه { في السماء } هو نشره في الآفاق ، و «الكسف » القطع ، وقرأ جمهور القراء «كسفاً » بفتح السين ، وقرأ ابن عباس «كسفاً » بسكون السين وهي قراءة الحسن وأبي جعفر والأعرج وهما بناءان للجمع كما يقال وسدْر بسكون الدال بفتح الدال وسدَر بفتح الدال ، وقال مكي : من أسكن السين فمعناه يجعل السحاب قطعة واحدة ، و { الودق } الماء يمطر ومنه قول الشاعر : [ المتقارب ]

فلا مزنة ودقت ودقها . . . ولا أرض أبقل إبقالها{[9327]}

و { خلاله } الفطور الذي بين بعضه وبعض لأنه متخلخل الأجزاء ، وقرأ الجمهور «من خِلاله » بكسر الخاء وألف بعد اللام جمع خلل كجبل وجبال ، وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس والضحاك والحسن بخلاف عنه «من خلله » وهم اسم جنس ، والضمير في { خلاله } يحتمل أن يعود على السحاب ويحتمل أن يعود على الكسف في قراءة من قرأ بسكون السين ، وذكر الضمير مراعاة اللفظ لا لمعنى الجمع ، كما تقول هذا تمر جيد{[9328]} ومن الشجر الأخضر من ناراً{[9329]} ، ومن قرأ «كسَفاً » بفتح السين فلا يعيد الضمير إلا على السحاب فقط{[9330]} .


[9327]:البيت لعامر بن جوين الطائي، وهو في كتاب سيبويه، والعيني، وابن يعيش، وشواهد المغني، وابن الشجري، وهمع الهوامع، وخزانة الأدب، والشاعر يصف أرضا أخصبت لكثرة الغيث، والمزنة: واحدة المزن، وهو السحاب يحمل الماء، والودق: المطر، وأبقلت: أخرجت البقل، وهو من النبات: ما ليس بشجر، ويستشهد النحويون بالبيت على حذف التاء من الفعل (أبقلت) لضرورة الشعر، ويسوع ذلك أن الأرض بمعنى المكان، أما ابن عطية فقد استشهد بالبيت هنا على أن (ودقت ودقها) بمعنى: أمطرت مطرها، فالودق هو ماء المطر.
[9328]:لأن علماء اللغة يقولون: كل جمع بينه وبين واحده الهاء لا غير فالتذكير فيه حسن، وهذا ينطبق على "تمر وتمرة وشجر وشجرة".
[9329]:يظهر أن في الكلام نقصا سقط من النساخ، وأن أصل التعبير: "هذا تمر جيد، ومنه قوله تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا} فقد عاد الضمير عليه مذكرا في قوله: {فإذا أنتم منه توقدون}. " فالضمير في (منه) يعود على [الشجر].
[9330]:لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَيَبۡسُطُهُۥ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ يَشَآءُ وَيَجۡعَلُهُۥ كِسَفٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦۖ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ} (48)

جاءت هذه الجملة على أسلوب أمثالها كما تقدم في قوله { هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } [ الروم : 27 ] ، وجاءت المناسبة هنا لذكر الاستدلال بإرسال الرياح في قوله { ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات } [ الروم : 46 ] استدلالاً على التفرّد بالتصرف وتصوير الصنع الحكيم الدال على سعة العلم ، ثم أعقب بالاستدلال بإرسال الرياح توسلاً إلى ذكر إحياء الأرض بعد موتها المستدَلّ به على البعث ، فقد أفادت صيغة الحصر بقوله { الله الذي يرسل الرياح أنه هو المتصرف في هذا الشأن العجيب دون غيره ، وكفى بهذا إبطالاً لإلهية الأصنام ، لأنها لا تستطيع مثل هذا الصنع الذي هو أقرب التصرفات في شؤون نفع البشر . والتعبير بصيغة المضارع في : يُرسل ، وتُثير ، ويَبسطه ، ويَجعله لاستحضار الصور العجيبة في تلك التصرفات حتى كأنَّ السامع يشاهد تكوينها مع الدلالة على تجدد ذلك .

{ وجمع الرياح } لِما شاع في استعمالهم من إطلاقها بصيغة الجمع على ريح البشارة بالمطر لأن الرياح التي تثير السحاب هي الرياح المختلفة جهات هبوبها بين : جَنوب وشَمَال وصَبا ودبور ، بخلاف اسم الريح المفردة فإنه غلب في الاستعمال إطلاقه على ريح القوة والشدة لأنها تتصل واردةً من صوب واحد فلا تزال تشتد . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت الريح قال : « اللهم اجعلها رياحاً لا ريحاً {[318]} » وقد تقدم قوله تعالى { وتَصْرِيف الرِّيَاح } في سورة البقرة ( 164 ) .

والإثارة : تحريك القارّ تحريكاً يضطرب به عن موضعه . وإثارة السحاب إنشاؤه بما تحدثه الرياح في الأجواء من رطوبة تحصل من تفاعل الحرارة والبرودة .

والبسط : النشر . والسماء : الجو الأعلى وهو جو الأسحِبة .

و { كيف } هنا مجردة عن معنى الاستفهام ، وموقعها المفعولية المطلقة من { يبسطه } لأنها نائبة عن المصدر ، أي : يَبسطه بسطاً كيفيته يشاؤها الله ، وقد تقدم في قوله تعالى : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } في سورة آل عمران ( 6 ) . وتقدم أن من زعم أنها شرط لم يصادف الصواب .

و { كِسَفاً } بكسر ففتح في قراءة الجمهور جمع كِسْف بكسر فسكون ، ويُقال : كِسْفة بهاء تأنيث وهو القطعة . وقد تقدم في قوله تعالى { أوْ تَسْقُط السَّماء كَما زَعمت علينَا كِسْفاً } في سورة الإسراء ( 92 ) . وتقدم الكِسْف في قوله { فأسقط علينا كِسفاً من السَّماء إنْ كُنْت مِن الصَّادِقين } في سورة الشعراء ( 187 ) . والمعنى : أنه يبسط السحاب في السماء تارة ، أي يجعله ممتداً عاماً في جو السماء وهو المدجن الذي يظلم به الجو ويقال المغلق ، ويجعله كسفاً أي تارة أخرى كما دلت عليه المقابلة ، أي : يجعله غمامات لأن حالة جعله كسفاً غير حالة بسطه في السماء ، فتعين أن يكون الجمع بينهما في الذكر مراداً منه اختلاف أحوال السحاب . والمقصود من هذا : أن اختلاف الحال آية على سعة القدرة .

والخطاب في { فترى الوَدْق } خطاب لغير معيّن وهو كل من يتأتى منه سماع هذا وتتأتى منه رؤية الودق . والودق : المطر . وضمير { خلاله } للسحاب بحالتيه المذكورتين وهما حالة بسطه في السماء وحالة جعله كسفاً فإن المطر ينزل من خلال السحاب المغلق والغمامات . والخلال : جمع خَلَل بفتحتين وهو الفرجة بين شيئين . وتقدم نظير هذه الجملة في سورة النور ( 43 ) .

وذكر اختلاف أحوال العباد في وقت نزول المطر وفي وقت انحباسه بين استبشار وإبلاس إدماج للتذكير برحمة الله إياهم وللاعتبار باختلاف تأثرات نفوسهم في السراء والضراء ، وفي ذلك إيماء إلى عظيم تصرف الله في خِلقة الإنسان إذ جعله قابلاً لاختلاف الانفعال مع اتحاد العقل والقلب كما جعل السحاب مختلف الانفعال من بسط وتقطع مع اتحاد الفعل وهو خروج الودق من خلاله .


[318]:- عن البيهقي بسند ضعيف