وصف تعالى الكفرة الذين لا يعلمون أمر الله وصدق وعده بأنهم إنما { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } ، واخلتف الناس في معنى { ظاهراً } فقالت فرقة معناه بيناً أي ما أدته إليهم حواسهم فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم{[9280]} ، وقال ابن عباس والحسن والجمهور : معناه ما فيه الظهور والعلو في الدنيا من إتقان الصناعات والمباني ومظان كسب الأموال والفلاحات ونحو هذا ، وقالت فرقة : معناه ذاهباً زائلاً أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة ومثل هذه اللفظة قول الهذلي :
وعيرها الواشون أني أحبها . . . وتلك شكاة ظاهر عنك عارها{[9281]}
وقال سعيد بن جبير : إن قوله { ظاهراً من الحياة الدنيا } إشارة إلى ما يعلم من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين ، وقال الروماني : كل ما يعلم بأوائل العقول فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو باطن .
قال القاضي أبو محمد : وفيه تقع الغفلة وتقصير الجهال ، ثم وصفهم ب «الغفلة » والإعراض عن أمر الآخرة وكرر الضمير تأكيداً ، وغفلة الكافر هي على الكمال والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه يأخذ من هذه الآية بحظ ، نوّر الله قلوبنا بهداه ، ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنهم قد فكروا فلم تنفعهم الفكرة والنظر إذ لم يكن على سداد ، وقوله تعالى : { في أنفسهم } يحتمل معنيين : أحدهما أن تكون الفكرة في ذواتهم وحواسهم وخلقتهم ليستدلوا بذلك على الخالق المخترع .
ومفعول { يَعْلَمُون } محذوف دل عليه قوله { سيغلبون في بضع سنين } [ الروم : 3 ، 4 ] . فالتقدير : لا يعلمون هذا الغلب القريب العجيب . ويجوز أن يكون المرادُ تنزيل الفعل منزلة اللازم بأن نزلوا منزلة من لا علم عندهم أصلاً لأنهم لما لم يصلوا إلى إدراك الأمور الدقيقة وفهم الدلائل القياسية كان ما عندهم من بعض العلم شبيهاً بالعَدَم إذ لم يبلغوا به الكمال الذي بلغه الراسخون أهل النظر ، فيكون في ذلك مبالغة في تجهيلهم وهو مما يقتضيه المقام .
ولما كان في أسباب تكذيبهم الوعد بانتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين أنهم يعدون ذلك محالاً ، وكان عدهم إياهم كذلك من التباس الاستبعاد العادي بالمُحال ، مع الغفلة عن المقادير النادرة التي يقدرها الله تعالى ويقدر لها أسباباً ليست في الحسبان فتأتي على حسب ما جرى به قدره لا على حسب ما يقدره الناس ، وكان من حق العاقل أن يفرض الاحتمالات كلَّها وينظر فيها بالسَبْر والتقييم ، أنحى الله ذلك عليهم بأن أعقب إخباره عن انتفاء علمهم صدق وعد القرآن ، بأن وصف حالة علمهم كلَّها بأن قُصارى تفكيرهم منحصر في ظواهر الحياة الدنيا غير المحتاجة إلى النظر العقلي وهي المحسوسات والمجريات والأمارات ، ولا يعلمون بواطن الدلالات المحتاجة إلى إعمال الفكر والنظر .
والوجه أن تكون { مِن } في قوله { من الحياة الدنيا } تبعيضية ، أي يعلمون ظواهر ما في الدنيا ، أي ولا يعلمون دقائقها وهي العلوم الحقيقية وكلها حاصلة في الدنيا . وبهذا الاعتبار كانت الدنيا مزرعة الآخرة .
والكلام يشعر بذم حالهم ، ومحطُّ الذم هو جملة { وهم عن الآخرة هم غافلون } . فأما معرفة الحياة الدنيا فليست بمذمة لأن المؤمنين كانوا أيضاً يعلمون ظاهر الحياة الدنيا ، وإنما المذموم أن المشركين يعلمون ما هو ظاهر من أمور الدنيا ولا يعلمون أن وراء عالم المادة عالماً آخر هو عالم الغيب . وقد اقتُصر في تجهيلهم بعالم الغيب على تجهيلهم بوجود الحياة الآخرة اقتصاراً بديعاً حصل به التخلص من غرض الوعد بنصر الروم إلى غرض أهم وهو إثبات البعث مع أنه يستلزم إثبات عالم الغيب ويكون مثالاً لجهلهم بعالم الغيب وذَمّاً لجهلهم به بأنه أوقعهم في ورطة إهمال رجاء الآخرة وإهماللِ الاستعداد لما يقتضيه ذلك الرجاء ، فذلك موقع قوله { وهم عن الآخرة هم غافلون } ؛ فجملة { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } بدل من جملة { لا يعلمون } بدل اشتمال باعتبار ما بعد الجملة من قوله { وهم عن الآخرة هم غافلون } لأن علمهم يشتمل على معنى نفي علم بمغيبات الآخرة وإن كانوا يعلمون ظواهر الحياة الدنيا .
وجملة { وهم عن الآخرة هم غافلون } يجوز أن تجعلها عطفاً على جملة { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } فحصل الإخبار عنهم بعلم أشياء وعدم العلم بأشياء ، ولك أن تجعل جملة { وهم عن الآخرة } الخ في موقع الحال ، والواو واو الحال .
وعُبر عن جهلهم الآخرة بالغَفلة كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة آخرة فكان جهلهم بذلك شبيهاً بالغفلة لأنه بحيث ينكشف لو اهتموا بالنظر فاستعير له { غَافِلون } استعارة تبعية .
و{ هُم } الأولى في موضع مبتدأ و { هم الثانية ضمير فصل . والجملة الاسمية دالة على تمكنهم من الغفلة عن الآخرة وثباتهم في تلك الغفلة ، وضمير الفصل لإفادة الاختصاص بهم ، أي هم الغافلون عن الآخرة دون المؤمنين .
ومن البديع الجمع بين { لا يَعْلَمون } و { يَعْلَمُون . } وفيه الطباق من حيث ما دلّ عليه اللفظان لا من جهة متعلقهما . وقريب منه قوله تعالى { ولقَد عَلمُوا لِمن اشتَرَاه ما لَهُ في الآخِرَة من خلاق ولبِئْسَ ما شَرَوْا به أنفُسَهُم لَو كَانُوا يَعْلَمون } [ البقرة : 102 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.