نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ} (7)

ولما كان من المشاهد أن لهم عقولاً راجحة وأفكارا صافية ، وأنظارا صائبة ، فكانوا بصدد أن يقولوا : إن علمنا أكبر{[52643]} من علمكم ، كان كأنه قيل بياناً لأنه يصح سلب ما ينفع{[52644]} من العلم بتأديته إلى السعادة الباقية ، وتنبيهاً على أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا : نعم { يعلمون } ولكن { ظاهراً } أي واحداً{[52645]} { من } التقلب في { الحياة الدنيا } وهو ما أدتهم إليه حواسهم وتجاربهم إلى ما يكون سبباً للتمتع بزخارفها{[52646]} والتنعم بملاذها ، قال الحسن : إن{[52647]} أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطىء وهو لا يحسن{[52648]} يصلي - انتهى . وأمثال هذا لهم كثير ، وهو وإن كان عند أهل الدنيا عظيماً فهو عند الله حقير ، فلذلك حقره لأنهم ما زادوا فيه على{[52649]} أن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل ، و{[52650]} ما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع ، وأما علم باطنها{[52651]} وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها بالطاعة ، فهو ممدوح منبه عليه بوصفها بما يفهم الأخرى .

ولما ذكر حالهم في الدنيا ، أتبعه ذكر{[52652]} اعتقادهم في الآخرة ، مؤكداً إشارة إلى أن الحال يقتضي إنكار أن يغفل أحد عنها ، لما لها من واضح الدلائل أقربه أن اسم ضدها يدل عليها ، لأنه لا تكون دنيا{[52653]} إلا في مقابلة قصياً ، ولا أولى إلا بالنسبة إلى أخرى ، فقال : { وهم } أي هؤلاء الموصوفون خاصة { عن الآخرة } التي هي المقصود بالذات وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صفات العز والكبر والجلال والإكرام { هم غافلون* } أي في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا يخطر في خواطرهم ، فصاروا لاستيلاء الغفلة عليهم إذا ذكرت لهم كذبوا بها ، واستهزؤوا بالمخبر ، ولم يجوزوها نوع تجويز مع أن دلائلها تفوت الحصر ، وتزيد على العد ، فصاروا{[52654]} كأنهم مخصوصون بالغفلة عنها من بين سائر الناس ومخصصون لها بالغفلة من بين سائر الممكنات ، فلذلك لا يصدقون الوعد بإدالة الروم لما رسخ في نفوسهم من أن{[52655]} الأمور تجري بين العباد على غير قانون الحكمة ، لأنهم كثيراً{[52656]} ما يرون الظالم يموت ولم{[52657]} يقتص منه ، وهم في غفلة عن أنه{[52658]} أخر جزاؤه إلى يوم الدين ، يوم يكشف الجبار{[52659]} حجاب الغفلة ويظهر عدله وفضله ، وتوضع الموازين القسط ، فتطيش بمثاقيل الذر ، ويقتص للمظلومين من الظالمين ، ومن أريد القصاص منه عاجلاً فعل ، وقضية الروم هذه من ذلك ، وهذا السياق يدل على أنه لا حجاب عن{[52660]} العلم أعظم من التكذيب بالآخرة ، ولا شيء أعون عليه من التصديق بها والاهتمام بشأنها ، لأن ذلك حامل{[52661]} على طلب الخلاص{[52662]} في ذلك اليوم ، وهو لا يكون على{[52663]} أتم الوجوه إلا لمن وصل إلى حالة المراقبة ، وذلك لا يكون إلا لمن علم إما بالكشف أو الكسب كل علم فلم يتحرك حركة إلا بدليل يبيحها له ويحمله عليها ، وبهذا التقرير يظهر أن هاتين الجملتين بكمالهما{[52664]} علة لنفي العلم عنهم ، والمعنى أن العلم منفي عنهم لما شغل قلوبهم من هذا الظاهر في حال غفلتهم عن الآخرة ، فانسد عليهم باب العلم - والله الموفق .


[52643]:من ظ ومد، وفي الأصل: أكثر.
[52644]:في ظ ومد: ما لا ينفع.
[52645]:من ظ ومد، وفي الأصل: واحد.
[52646]:من ظ ومد، وفي الأصل: بزخرفها.
[52647]:زيد من ظ ومد ومعالم التنزيل بهامش اللباب 5/118.
[52648]:زيد في المعالم: أن.
[52649]:من ظ ومد، وفي الأصل: إلى.
[52650]:زيد من ظ ومد.
[52651]:من ظ ومد، وفي الأصل: بإظهار.
[52652]:زيد من ظ ومد.
[52653]:سقط من ظ.
[52654]:في ظ ومد: فكانوا.
[52655]:زيد من ظ ومد.
[52656]:من مد، وفي الأصل وظ: كثير.
[52657]:من مد، وفي الأصل وظ: لا.
[52658]:زيد من مد.
[52659]:من مد، وفي الأصل: الجبابرة، وفي ظ: عن ساق ـ كذا.
[52660]:من ظ ومد، وفي الأصل: من.
[52661]:من ظ ومد، وفي الأصل: حايل.
[52662]:من ظ ومد، وفي الأصل: الإخلاص.
[52663]:من ظ ومد، وفي الأصل: في.
[52664]:من ظ ومد، وفي الأصل: بكمالها.