المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱسۡتَمِعۡ يَوۡمَ يُنَادِ ٱلۡمُنَادِ مِن مَّكَانٖ قَرِيبٖ} (41)

قوله تعالى : { واستمع } بمنزلة ، وانتظر ، وذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء ، لأن كل من فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار ، وقيل لمحمد تحسس وتسمع هذا اليوم وارتقبه ، وهذا كما تقول لمن تعده بورود فتح استمع كذا وكذا ، أي كن منتظراً له مستمعاً ، وعلى هذا فنصب { يوم } إنما هو على المفعول الصريح .

وقرأ ابن كثير : «المنادي » بالياء في الوصل والوقف على الأصل الذي هو ثبوتها ، إذ الكلام غير تام وإنما الحذف ابداً في الفواصل ، والكلام التام تشبيهاً بالفواصل . وقرأ أبو عمرو ونافع ، بالوقف بغير ياء لأن الوقف موضع تغيير ، ألا ترى أنها تبدل من التاء فيه الهاء في نحو طلحة وحمزة ، ويبدل من التنوين الألف ويضعف فيه الحرف كقولك هذا فرج ، ويحذف فيه الحرف في القوافي ، وقرأ الباقون وطلحة والأعمش وعيسى بحذف الياء في الوصل والوقف جميعاً وذلك اتباع لخط المصحف ، وأيضاً فإن الياء تحذف مع التنوين فوجب أن تحذف مع معاقب التنوين وهي الألف واللام .

وقوله تعالى : { من مكان قريب } قيل وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أن ملكاً ينادي من السماء : أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة ، هلم إلى الحساب والوقوف بين يدي الله تعالى »{[10574]} . وقال كعب الأحبار وقتادة وغيرهما : المكان صخرة بيت المقدس واختلفوا في معنى صفته بالقرب فقال قوم : وصفها بذلك لقربها من النبي صلى الله عليه وسلم أي من مكة . وقال كعب الأحبار : وصفه بالقرب من السماء ، وروي أنها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً ، وهذا الخبر إن كان بوحي ، وألا سبيل للوقوف على صحته .


[10574]:أخرجه ابن عساكر، والواسطي في (فضائل بيت المقدس)، عن يزيد بن جابر، في قوله تعالى:{واستمع يوم ينادي المنادي}، وفيه أن الملك هو إسرافيل، وأخرج مثله ابن جرير عن كعب.(الدر المنثور).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱسۡتَمِعۡ يَوۡمَ يُنَادِ ٱلۡمُنَادِ مِن مَّكَانٖ قَرِيبٖ} (41)

لا محالة أن جملة { استمع } عطف على جملة { سَبح بحمد ربك } [ ق : 39 ] ، فالأمر بالاستماع مفرع بالفاء التي فرع بها الأمر بالصبر على ما يقولون . فهو لاحق بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون المسموع إلا من نوع ما فيه عناية به وعقوبة لمكذبيه .

وابتداء الكلام ب { استمع } يفيد توثيقاً إلى ما يرد بعده على كل احتمال . والأمر بالاستماع حقيقته : الأمر بالإنصات والإصْغاء .

وللمفسرين ثلاث طرق في محمل { استمع } ، فالذي نحاه الجمهور حمل الاستماع على حقيقته وإذ كان المذكور عقب فعل السمع لا يصلح لأن يكون مسموعاً لأن اليوم ليس مما يُسمع تعين تقدير مفعول ل { استمع } يدل عليه الكلام الذي بعده فيقدر : استمع نداءَ المنادي ، أو استمع خبرهم ، أو استمع الصيحة يوم ينادي المنادي . ولك أن تجعل فعل { استمع } منزلاً منزلة اللازم ، أي كُن سامِعاً ويتوجه على تفسيره هذا أن يكون معنى الأمر بالاستماع تخييلاً لصيحة ذلك اليوم في صورة الحاصل بحيث يؤمر المخاطب بالإصغاء إليها في الحال كقول مالك بن الرَّيّب :

دَعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي *** بذي الطَّبَسَيْن فالتفَتُّ وَرائيا

ونحَا ابنُ عطية حمل { استمع } على المجاز ، أي انتظر . قال : « لأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء لأن كل مَن فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم تحسس هذا اليوم وارتقبه فإن فيه تبّين صحة ما قلته » اه . ولم أر مَن سَبَقه إلى هذا المعنى ومثله في « تفسير الفخر » وفي « تفسير النسفي » . ولعلهما اطلعا عليه لأنهما متأخران عن ابن عطية وهما وإن كانا مشرقيّين فإن الكتب تُنقل بين الأقطار . وللزمخشري طريقة أخرى فقال « يعني : واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة . وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبَر به كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل " يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك " ولم أرَ من سبقه إلى هذا وهو محمل حسن دقيق .

واللائق بالجري على المحامل الثلاثة المتقدمة أن يكون { يوم يناد المنادي } مبتدأ وفتحته فتحة بناء لأنه اسم زمان أضيف إلى جملة فيجوز فيه الإعراب والبناءُ على الفتح ، ولا يناكده أن فعل الجملة مضارع لأن التحقيق أن ذلك وارد في الكلام الفصيح وهو قول نحاة الكوفة وابنِ مالك ولا ريبة في أنه الأصوب . ومنه قوله تعالى : { قال الله هذَا يوم ينفع الصادقين صدقهم } [ المائدة : 119 ] في قراءة نافع بفتح { يومَ } .