{ كم } للتكثير وهي خبرية ، المعنى كثيراً { أهلكنا قبلهم } . والقرن : الأمة من الناس الذين يمر عليهم قدر من الزمن . واختلف الناس في ذلك القدر ، فقال الجمهور : مائة سنة ، وقيل غير هذا ، وقد تقدم القول فيه غير مرة . وشدة البطش : هي كثرة القوة والأموال والملك والصحة والأدهان إلى غير ذلك .
وقرأ جمهور من الناس : «فنقَّبوا » بشد القاف المفتوحة على إسناد الفعل إلى القرون الماضية ، والمعنى : ولجوا البلاد من أنقابها وفي الحديث : «أن على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال »{[10559]} . والمراد تطوفوا ومشوا طماعين في النجاة من الهلكة ومنه قول الشاعر [ امرؤ القيس ] : [ الوافر ]
وقد نقبت في الآفاق حتى . . . رضيت من الغنيمة بالإياب{[10560]}
ومنه قول الحارث بن حلزة : [ الخفيف ]
نقبوا في البلاد من حذر الموت . . . وجالوا في الأرض كل مجال{[10561]}
وقرأ ابن يعمر وابن عباس ونصر بن سيار وأبو العالية : «فنقِّبوا » بشد القاف المكسورة على الأمر لهؤلاء الحاضرين .
و : { هل من محيص } توقيف وتقرير ، أي لا محيص ، والمحيص : المعدل موضع الحيص وهو الروغان والحياد ، قال قتادة : حاص الكفرة فوجدوا أمر الله منيعاً مدركاً ، وفي صدر البخاري ( فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ){[10562]} . وقال ابن عبد شمس في وصف ناقته : [ الوافر ]
إذا حاص الدليل رأيت منها . . . جنوحاً للطريق على اتساق{[10563]}
وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد عنه : «فنقَبوا » بفتح القاف وتخفيفها هي بمعنى التشديد ، واللفظة أيضاً قد تقال بمعنى البحث والطلب ، تقول : نقب عن كذا اي استقصى عنه ، ومنه نقيب القوم لأنه الذي يبحث عن أمورهم ويباحث عنها ، وهذا عندي تشبيه بالدخول من الأنقاب .
انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } [ ق : 4 ] وما فُرّع عليه من قوله : { أفَعَيِينَا بالخلق الأول } [ ق : 15 ] . وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله : { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرّس إلى قوله : { فحقّ وعيد } [ ق : 12 ، 14 ] . فالوعيد الذي حقّ عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً } .
والخبر الذي أفاده قوله : { وكم أهلكنا قبلهم } تعريض بالتهديد وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وضميرا { قبلهم } و { منهم } عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ويفسره قوله بعده فقال الكافرون هذا شيء عجيب } [ ق : 2 ] . وجرى على ذلك السَّنَن قوله : { كَذَّبت قبلهم قوم نوح } وقوله : { بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] ، ونظائره في القرآن كثيرة .
و { كم } خبرية وجرّ تمييزها ب { من } على الأصل .
والبطش : القوة على الغير . والتنقيب : مشتق من النقْب بسكون القاف بمعنى الثقب ، فيكون بمعنى : خَرَقوا ، واستعير لمعنى : ذللوا وأخضعوا ، أي تصرفوا في الأرض بالحفر الغرس والبناء وتحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قوله : { وأثارُوا الأرض وعَمَرُوها } في سورة الروم ( 9 ) .
وتعريف البلاد } للجنس ، أي في الأرض كقوله تعالى : { الذين طغوا في البلاد } [ الفجر : 11 ] .
والفاء في { فنقبوا } لتفريع عن { أشد منهم بطشاً } ، أي ببطشهم وقوتهم لقبوا في البلاد .
والجملة معترضة بين جملة { وكم أهلكنا قبلهم } إلى آخره .
وجملة { هل من محيص } كما اعترض بالتفريع في قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } [ الأنفال : 14 ] .
وجملة { هل من محيص } بدل اشتمال من جملة { أهلكنا } ، أي إهلاكاً لا منجى منه . ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة . فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك دخلت { من } على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال : ما مِن محيص ، وهذا قريب من قوله في سورة ص ( 3 ) { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولاتَ حين مناص } .
والمحيص : مصدر ميمي من حَاص إذا عَدَل وجاد ، أي لم يجدوا محيصاً من الإهلاك وهو كقوله تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد } في سورة مريم ( 98 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.