المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ عَٰلِمَ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ أَنتَ تَحۡكُمُ بَيۡنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (46)

أمر الله تعالى نبيه بالدعاء ورد الحكم إلى عدله ، ومعنى هذا الأمر تضمن الإجابة ، و { اللهم } عند سيبويه منادى ، وكذلك عند الكوفيين ، إلا أنه خالفهم في هذه الميم المشددة . فقال سيبويه : هي عوض من حرف النداء المحذوف إيجازاً ، وهي دلالة على أن ثم ما حذف . وقال الكوفيون : بل هو فعل اتصل بالمكتوبة وهو : أم ، ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ، فكأن معنى { اللهم } : بالله أم بفضلك ورحمتك .

و : { فاطر } منادى مضاف ، أي { فاطر السماوات } . و { الغيب } : ما غاب عن البشر . و { الشهادة } : ما شاهدوه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ عَٰلِمَ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ أَنتَ تَحۡكُمُ بَيۡنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (46)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، الله خالق السموات والأرض عالمَ الغَيْبِ والشّهادَةِ الذي لا تراه الأبصار، ولا تحسه العيون والشهادة الذي تشهده أبصار خلقه، وتراه أعينهم،

"أنْتَ تَحْكُمُ بينَ عِبادِكَ" فتفصل بينهم بالحقّ يوم تجمعهم لفصل القضاء بينهم "فيما كانُوا فِيهِ" في الدنيا "يَخْتَلِفُونَ" من القول فيك، وفي عظمتك وسلطانك، وغير ذلك من اختلافهم بينهم، فتقضي يومئذ بيننا وبين هؤلاء المشركين الذين إذا ذكرت وحدك اشمأزّت قلوبهم، وإذا ذكر مَنْ دونك استبشروا بالحقّ.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يحتمل: مُبدئ، ويحتمل: مبدع أو خالق السماوات والأرض.

{عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} يحتمل قوله: {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ما أشهد الخلق بعضهم على بعض، هو عالم ذلك كله، [ويحتمل] عالم ما يكون أنه يكون، والشهادة ما قد كان يعلم ذلك كله.

{أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} في هذه الدنيا، فهو يخرّج على وجوه:

أحدها: ما جعل الله من الكتب والرسل، وبيّن لهم ما فيها مالهم وما عليهم. ثم إن كان في الآخرة فجائز ألا يكون يحكم بيننا في ما وسّع علينا الحكم في الأمر في الدنيا، وترتفع المحنة به في الآخرة من نحو الأحكام التي سبيل معرفتها الاجتهاد، ولا يحكم بذلك بيننا بشيء من ذلك، وإذا كان غير موسّع علينا في الدنيا ترك ذلك، وهو مما لا ترتفع المحنة به في الدارين جميعا من نحو التوحيد والدين، فذلك يحكم بيننا في الآخرة.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

عَلَّمَه -صلى الله عليه وسلم – كيف يثني عليه – سبحانه، وتشتمل الآيةُ على الإشارة إلى بيان ما ينبغي من التنَصُّل والتذلُّلِ، وابتغاءِ العَفْو والتفضُّلِ، وتحقيق الالتجاء بِحُسْنِ التوكل...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

بَعِل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وبشدة شكيمتهم في الكفر والعناد، فقيل له: ادع الله بأسمائه العظمى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم، ولا حيلة لغيرك فيهم، وفيه وصف لحالهم وإعذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ووعيد لهم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما حكى عنهم هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده، أردفه بأمرين أحدهما: أنه ذكر الدعاء العظيم، فوصفه أولا بالقدرة التامة وهي قوله: {قل اللهم فاطر السموات والأرض}.

وثانيا: بالعلم الكامل وهو قوله تعالى {عالم الغيب والشهادة}، وإنما قدم فذكر القدرة على ذكر العلم؛ لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما، ولما ذكر هذا الدعاء قال: {أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون}: يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم عند سماع الشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل ومع ذلك، القوم قد أصروا عليه، فلا يقدر أحد على إزالتهم عن هذا الاعتقاد الفاسد والمذهب الباطل إلا أنت...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما نفى صلاحية الوكالة على الناس في الهدى والضلال لغيره، ودل على ذلك بملكه وملكه وأخبر بتعمدهم الباطل، أنتج ذلك وجوب اللجاء إليه والإعراض عما سواه وقصر العزم عليه فقال معلماً بذلك ومعلماً لما يقال عند مخالفة الداعي باتباع الهوى: {قل} أي يا من نزل عليه الكتاب فلا يفهم عنا حق الفهم غيره راغباً إلى ربك في أن ينصرك عليهم في الدنيا والآخرة: {اللهم} أي يا الله، وهذا نداء محض ويستعمل أيضاً على نحوين آخرين: أحدهما أن تذكر لتمكين الجواب في نفس السائل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لضمام بن ثعلبة رضي الله عنه حيث قال:"الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس، فقال: اللهم نعم"... ولما كان غيره سبحانه لا يمكن له ذلك، حسن التخصيص في قوله: {أنت} أي وحدك {تحكم بين عبادك} أي أنا وهم وغيرنا في الدنيا والآخرة لا محيص عن ذلك ولا يصح في الحكمة سواه، كما أن كل أحد يحكم بين عبيده ومن تحت أمره لا يسوغ في رأيه غير ذلك.

{في ما كانوا} أي دائماً بما اقتضته جبلاتهم التي جبلتهم عليها.

{فيه يختلفون} وأما غيرك فإنه لا يعلم جميع ما يفعلون، فلا يقدر على الحكم بينهم، وأما غير ما هم عريقون في الاختلاف فيه فلا يحكم بينهم فيه؛ لأنه أما ما هيؤوا بفطرهم السليمة وعقولهم القويمة للاتفاق عليه فهو الحق، وأما ما يعرض لهم الاختلاف فيه لا على سبيل القصد أو بقصد غير ثابت، فهو مما تذهبه الحسنات، فعرف أن تقديم الظرف إنما هو للاختصاص لا الفاصلة...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والأرض عالم الغيب والشهادة} أي التجئ إليه تعالى بالدُّعاءِ لما تحيَّرتَ في أمر الدَّعوةِ وضجرت من شدَّةِ شكيمتهم في المُكابرة والعناد، فإنَّه القادرُ على الأشياء بجُملتها والعالمُ بالأحوال بُرمَّتِها.

{أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي حُكماً يُسلِّمه كلُّ مكابرٍ معاند ويخضعُ له كلُّ عاتٍ مارد وهو العذابُ الدنيويُّ أو الأخرويُّ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

الجواب على هذا المسخ والانحراف والضلال هو ما لقنه الله لرسوله [صلى الله عليه وسلم] في مواجهة مثل هذه الحال: (قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون).. إنه دعاء الفطرة التي ترى السماء والأرض؛ ويتعذر عليها أن تجد لها خالقاً إلا الله فاطر السماوات والأرض، فتتجه إليه بالاعتراف والإقرار، وتعرفه بصفته اللائقة بفاطر السماوات والأرض. (عالم الغيب والشهادة) المطلع على الغائب والحاضر، والباطن والظاهر. (أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون) فهو وحده الحكم يوم يرجعون إليه. وهم لا بد راجعون.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لما كان أكثر ما تقدم من السورة مشعراً بالاختلاف بين المشركين والمؤمنين، وبأن المشركين مصممون على باطلهم على ما غمرهم من حجج الحق دون إغناء الآيات والتدبر عنهم، أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم عقب ذلك بأن يقول هذا القول تنفيساً عنه من كدر الأسى على قومه، وإعذاراً لهم بالنذارة، وإشعاراً لهم بأن الحق في جانبهم مضاع، وأن الأجدر بالرسول صلى الله عليه وسلم متاركتهم وأن يفوّض الحكم في خلافهم إلى الله.

وفي هذا التفويض إشارة إلى أن الذي فوّض أمره إلى الله هو الواثق بحقّية دينه المطمئن بأن التحكيم يُظهر حقه وباطل خصمه.

وابتدئ خطابُ الرسول صلى الله عليه وسلم ربَّه بالنداء؛ لأن المقام مقام توجيه وتحاكم، وإجراء الوصفين على اسم الجلالة؛ لما فيهما من المناسبة بخضوع الخلق كلهم لحكمه وشمول علمه لدخائلهم من مُحقّ ومُبطل، والعدول عن الإِضمار إلى الاسم الظاهر في قوله: {بَيْنَ عبادِكَ} دون أن يقول: بيننا، لما في {عِبَادِك} من العموم؛ لأنه جمع مضاف فيشمل الحكم بينهم في قضيتهم هذه، والحكمَ بين كل مختلِفين؛ لأن التعميم أنسب بالدعاء والمباهلة...

وجملة {أنت تحكم بين عبادك} خبر مستعمل في الدعاء، والمعنى: احكم بيننا.

وفي تلقين هذا الدعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه الفاعل الحق. وتقديم المسند إليه على الخبر الفِعْلي في قوله: {أنت تحكم} لإِفادة الاختصاص، أي أنت لا غيرك. وإذ لم يكن في الفريقين من يعتقد أن غير الله يحكم بين الناس في مثل هذا الاختلاف فيكونَ الرد عليه بمفاد القصر، تعين أن القصر مستعمل كناية تلويحية عن شدة شكيمتهم في العناد وعدم الإِنصاف والانصياع إلى قواطع الحجج، بحيث إن من يتطلب حاكماً فيهم لا يجد حاكماً فيهم إلا الله تعالى... والحكم يصدق بحكم الآخرة وهو المحقق الذي لا يخلف، ويشمل حكم الدنيا بنصر المحق على المبطل إذا شاء الله أن يعجل بعض حكمه بأن يُعجل لهم العذاب في الدنيا.

والإِتيان بفعل الكون صلة ل {مَا} الموصولة ليدُل على تحقق الاختلاف، وكونُ خبر (كان) مضارعاً تعريض بأنه اختلاف متجدد إذ لا طماعية في ارعواء المشركين عن باطلهم.

وتقديم {فِيهِ} على {يَخْتلفون} للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالأمر المختلَف فيه...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هذا أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر الوعد لأهل الخير، والوعيد لأهل الشر، واستوفى الأمرين مع الجماعتين، قال لرسوله بعد أنْ بلغت الوعد والوعيد: ليس لك إلا أن تلتجئ إلى الله، فهو سبحانه وحده الذي يحكم بينك وبين هؤلاء، لأنك استنفدتَ معهم كل أوجه الدعوة الحسنة والبلاغ الجميل، وما داموا مُصرِّين فدَعْهُم إلى أنْ يحكم الله بينك وبينهم يوم القيامة.

ولا تحزن يا محمد، لأن الله لا يحكم إلا بالحق، وثقْ أنه الذي اختارك للرسالة، وأنه ناصرك ومُظهر دينك، وسوف ترى هذه النُّصْرة في الدنيا قبل الآخرة، وفعلاً رآها الرسول قبل موته...

الحق سبحانه وتعالى يُعلِّم رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُعلِّمنا كيف ندعوه، فقال: (قُلْ) أي: يا محمد (اللهُمَّ) يقول سيدنا سعيد بن المسيِّب: لا أجد في القرآن آية أَرْجَى للداعي من قوله سبحانه: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ..} وما علمه الله أن يدعو إلا لسبقه في القدر أنْ يجيب. إذن: الحق سبحانه لم يترك رسوله يدعوه بلفظ من عنده إنما علَّمه بِمَ يدعو، فلا بُدَّ أنْ يُكتبَ له القبول، كما لو أن شخصاً أعطاك المفتاح، هذا يعني أنه يقبلك أنْ تدخل المكان.

وهنا يجب أن نقف على روعة الأداء البياني وعظمة الدعاء والنداء في (اللَّهُمَّ) وهي عبارة عن لفظ الجلالة (الله) أُلحقتْ به (ميم) مُشدَّدة للدعاء والنداء، ونحن نعرف أن النداء طلبُ إقبال المخاطب على المتكلم، وللنداء حروف معروفة حسب قرب المنادِي أو بُعْده من المنادَى، فنقول في نداء القريب: أمحمد. وفي نداء البعيد: يا محمد والأبعد: أيا محمد.. إلخ.

إذن: فحرف النداء نفسه يحدد موقع المدعو، فهل يجوز استخدام هذه الحروف في نداء الحق سبحانه فنقول مثلاً: يا الله؟ إنه من الأدب في نداء الحق سبحانه ألاَّ نناديه سبحانه كما ننادي غيره لأنه سبحانه أقربُ إلينا من حبل الوريد، فلا يصح أنْ نقول: يا الله أو أيا الله، فهذه مراتب للبُعْد والله قريب.

لذلك لا تجد القرآن يستخدم هذه الحروف أبداً في ندائه سبحانه، إنما استخدم اللهم للدعاء، وعلَّمنا أنْ ندعوه بها، وقد ألحق بها الميم المشدَّدة بدلاً من حروف النداء قبل الاسم المنادى، فالميم عِوَضٌ عن حرف النداء المحذوف فدلَّتْ الميم المشددة على النداء، وعلى ذِلَّة الطلب منك.

وحين نستقرئ القرآن الكريم نجد أن كلمة الله وردت بالرفع 985 مرة ليس فيها دعاء إلا باللهم في خمسة مواضع هي: هذه الآية التي معنا، ثم قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ..} [آل عمران: 26].

وقوله: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114].

وقوله: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].

وقوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

أما في نداء الربوبية فنقول: يا رب، وفَرْقٌ بين نداء لفظ الجلالة (الله) وبين نداء لفظ الربوبية (رب)، فالألوهية تكليف أما الربوبية فعطاءٌ ومنعم، فما دام الربُّ معطي نعمة. فنقول في ندائه: يا رب لأن الربوبية إيجادٌ من عدم وإمداد من عُدْم وتربية، إذن: أنت المستفيد في عطاء الربوبية، أما الألوهية فتكليف بافعل ولا تفعل.

وكلمة {فَاطِرَ..} أي: خالق ومُبدع ومُوجد الوجود من العدم على غير مثال سابق يعني: أمر ابتكاري جديد فإنْ كان الإيجاد على مثال سابق يعني محاكاة فلا يسمى (فاطر).

وقوله {السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضِ..} اختار السماوات والأرض، لأنها الكائن الذي لا يغيب عن الإنسان، فالأرض تُقِلُّه والسماء تظله فهو لا ينفكّ عنهما لحظة من حياته، وهناك نِعَم أخرى قد تغيب عن الإنسان في وقت كالماء مثلاً.

{عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ..} يمتنُّ الحق سبحانه بعلم الغيب. فكيف يمتنُّ بعلم الشهادة، وهي معلومة للناس مُشَاهدة؟

قالوا: لأن الله غيْبٌ، وقد نفهم أن هذا الغيبَ كالغيب بالنسبة لك، فأنت تشاهد مَنْ معك في البيت، لكن لا تشاهد مَنْ هو خارج البيت، فهو بالنسبة لك غَيْبٌ، لكن الحق سبحانه يعلم الغيب ويعلم المشَاهد ما غاب عنكم والمشهود لكم ولغيركم.

وقوله: {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} هذا هو المرجع النهائي في الخلاف بين الحق والباطل، يوم الفتح الذي كان ينتظره هؤلاء ويستعجلونه، بل ويستهزئون به كما قال سبحانه حكايةً عنهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70].

وقولوا: {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة: 28] فيردّ عليهم الحق سبحانه: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [السجدة: 29] يعني: لو جاءكم هذا اليوم فلن ترجعوا بعده مرة أخرى لتجدوا إيماناً ولا توبة.

ونلحظ هنا أن القرآن استعمل كلمة (عباد) للدلالة على الفريقين: المؤمنين، والكافرين، والغالب أن تستخدم كلمة العباد في الطائعين الملتزمين بالمنهج كما في قوله سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63].

فهل يُقال للكافرين وللعاصين أيضاً عباد؟

قالوا: نعم: لأن الإنسان له وضعان بالنسبة لربه تعالى: وَضْع له فيه اختيار، وهي قوة الاختيار التي خلقها الله في الإنسان بحيث يفعل ما يشاء، حتى إنه يفعل لما لا يريده منه ربه سبحانه. وهناك وَضْع آخر ليس له فيه اختيار، وهي الأمور القهرية التي لا اختيارَ للعبد فيها.

فالإنسان مثلاً قد يتمرد على منهج ربه، وقد يخالفه ويشذ عنه، فنقول له: ما دُمت قد ألفتَ التمرد فتمرد على كل شيء، تمرد على المرض تمرد على الموت.. إنه لا يستطيع، لأنها أمور قهرية لا اختيار له فيها. إذن: فهو في هذا الوضع محكوم بالعبودية قهراً، فهو لا يخرج عن عبوديته لله حتى لو كان كافراً، وحين نقول للكافرين (عباد) فلأنهم في شق من تصرفاتهم لا يتأبَّوْنَ فيه على الله، بل هم فيه مقهورون.

لذلك قال تعالى عنهم في الآخرة: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان: 17].

هذا خطاب للمضلِّين فسمَّى الضالين عباداً، لماذا؟ لأن الكلام هنا في الآخرة حيث يستوي الجميع، فالكل هناك طائع صالح مؤمن، كلهم في الآخرة عباد وعبيد. أما في الدنيا فكلهم عبيد وبعضهم عباد.