المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

وقوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه } يريد النوع ، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي ، فهي وصية من الله في عباده .

وقرأ جمهور القراء : «حُسْناً » بضم الحاء وسكون السين ، ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمراً ذا حسن ، فكأن الفعل تسلط عليه مفعولاً ثانياً . وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى : «حَسَناً » بفتح الحاء والسين ، وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبُخل والبَخل{[10302]} ، ومحتمل ، أن يكون هذا الثاني اسماً لا مصدراً ، أي ألزمناه بهما فعلاً حسناً{[10303]} . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحساناً » ، ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور ، والباء متعلقة ب { وصينا } أو بقوله : «إحساناً »{[10304]} .

وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها ، وعقوقهما كبيرة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين{[10305]} .

قال القاضي أبو محمد : : ولن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد ، فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام : «اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب »{[10306]} .

ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب ، والأب في واحدة ، جمعهما الذكر في قوله : { بوالديه } ، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، والربع للأب ، وذلك إذ قال له رجل : يا رسول الله من أبر ؟ «قال : أمك ، قال ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من ؟ قال : أباك »{[10307]} .

وقوله : { كرهاً } معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه ، ويحتمل أن يريد في وقت الحمل ، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه ، وقال مجاهد والحسن وقتادة : المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة .

وقرأ أكثر القراء : «كُرهاً » بضم الكاف . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج : «كَرهاً » بفتح الكاف ، وقرأ بهما معاً مجاهد وأبو رجاء وعيسى . قال أبو علي وغيره : هما بمعنى ، الضم الاسم ، والفتح المصدر . وقالت فرقة : الكره بالضم : المشقة ، والكره بالفتح هو الغلبة والقهر ، وضعفوا على هذا قراءة الفتح . قال بعضهم : لو كان «كَرهاً » لرمت به عن نفسها ، إذ الكره القهر والغلبة ، والقول الذي قدمناه أصوب .

وقرأ جمهور الناس : «وفصاله » وذلك أنها مفاعلة من اثنين ، كأنه فاصل أمه وفاصلته . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري : «وفصله » ، كأن الأم هي التي فصلته .

وقوله : { ثلاثون شهراً } يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة ، لأن في القول حذف مضاف تقديره : ومدة حمله وفصاله ، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً ، وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين ، وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام ، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع ، وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر .

وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر ، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله .

واختلف الناس في الأشد : فقال الشعبي وزيد بن أسلم : البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات . وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر عاماً ، وقيل عشرون عاماً ، وقال ابن عباس وقتادة : ثلاثة وثلاثون عاماً ، وقال الجمهور من النظار : ثلاثة وثلاثون . وقال هلال بن يساف وغيره : أربعون ، وأقوى الأقوال ستة وثلاثون ، ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله : { وبلغ أربعين سنة } .

قال القاضي أبو محمد : وإنما ذكر تعالى الأربعين ، لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته ، وفي الحديث : «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول : بأبي وجه لا يفلح »{[10308]} وقال أيمن بن خريم الأسدي : [ الطويل ]

إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ . . . له دون ما يأتي حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى . . . وإن جر أسباب الحياة له العمر{[10309]}

وفي مصحف ابن مسعود : «حتى إذا استوى أشده وبلغ أربعين سنة »{[10310]} وقوله : { أوزعني } معناه : ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك{[10311]} ، ويحتمل أن يكون { أوزعني } بمعنى اجعل حظي ونصيبي ، وهذا من التوزيع والقوم الأوزاع ، ومن قوله توزعوا المال ، ف «أن » على هذا مفعول صريح . وقال ابن عباس { نعمتك } في التوحيد . و : { صالحاً ترضاه } الصلوات . والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية ، وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل ، وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع .

وقال الطبري : وذُكر أن هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق ، ثم هي تتناول من بعده ، وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه ، فلذلك قال : { وعلى والدي } ، وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف في ذلك ، وأبو قحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما ، فكانت هذه نعمة عليهما أن ليسا ممن عسى{[10312]} في الكفر ولج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد ، والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح{[10313]} ، وباقي الآية بين إلى قوله : { من المسلمين } .


[10302]:مثل: الشُّغل والشَّغل، ذكر ذلك أبو الفتح في المحتسب.
[10303]:قال ابن جني: فهو اسم صفة لا مصدر، ونصبه(وصيناه به)؛ لأنه يفيد مفاد: ألزمناه الحسن في أبويه، وإن شئت قلت: هو منصوب بفعل غير هذا، لا بنفس هذا، فيكون منصوبا بنفس ألزمناه، لا بنفس وصيناه؛ لأنه في معناه.
[10304]:يرفض أبو حيان في البحر ذلك ويقول:"لا يصح أن يتعلق بـ[إحسانا]؛ لأنه مصدر بحرف مصدري والفعل؛ فلا يتقدم معموله عليه، ولأن"أحسن" لا يتعدى بالباء، إنما يتعدى باللام؛ تقول: أحسنت لزيد، ولا تقول: أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه".
[10305]:وروى أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:(ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)، أما الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره المؤلف فقد رواه ابن النجار عن أنس رضي الله عنه، وقد ذكره الإمام السيوطي في الجامع الصغير، ورمز له بأنه ضعيف.
[10306]:أخرجه البخاري في الجهاد والزكاة والمظالم والمغازي، ومسلم في الإيمان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي في الزكاة، ومالك في موطئه في دعوة المظلوم، وأحمد في مسنده(1-322،3-153)، ولفظه كما جاء في البخاري في كتاب المظالم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال:(اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب).
[10307]:رواه البخاري ومسلم، واللفظ فيهما:(من أحق الناس بحسن صحابتي؟).
[10308]:لم أقف على هذا الحديث، ولم يذكره من المفسرين في هذا الموقع غير ابن عطية إلا صاحب البحر المحيط.
[10309]:أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي، له ترجمة في الأغاني، والإصابة، وتهذيب ابن عساكر، ومعنى "وفّى الأربعين": أكملها، و"ما يأتي": ما يفعل من الأشياء، يفعل ما يريد دون خجل أو تستر من الناس، ولا تنفس عليه، أي لا تحسده على ما ارتضى لنفسه من الأمور مهما طال عمره.
[10310]:قال الفراء:"والمعنى فيه كالمعنى في قراءتنا؛ لأنه جائز في العربية أن تقول: لما وُلد لك وأدركت مدرك الرجال عققت وفعلت، والإدراك قبل الولادة".
[10311]:من ذلك قول النابغة الذبياني: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع؟ وقول الآخر: ولما تلاقينا جرت من جفوننا دموع وزعنا غربها بالأصابع فإن المعنى فيهما الكف والدفع، ولكن الطبري يرى أن المعنى: أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك لي للاقرار بذلك، وأصله من "وزعت الرجل على كذا، إذا دفعته عليه"، وقال القرطبي: أوزعني: ألهمني.
[10312]:عسى هنا بمعنى كبِر، جاء في اللسان:"عسا الشيخ يعسو….:كبِر، مثل عتا، ويقال للشيخ إذا ولى وكبر: عتا يعتو عتيا، وعسا يعسو مثله".
[10313]:في الآية ثلاثة أقوال: الأول أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد ذكر ذلك الواحدي في "أسباب النزول" من رواية عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بدون سند، وقال السيوطي في "الدر المنثور":"أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنهما...، والثاني أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، والثالث أنها عامة، وهذا ما رجحه المؤلف رحمه الله.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما...

وقوله:"حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها" يقول تعالى ذكره: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما، لما كان منهما إليه حملاً ووليدا وناشئا، ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من نعمة أمه، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه، ونبهه على الواجب لها عليه من البرّ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة، فقال: "حَمَلَتْهُ أُمّهُ "يعني في بطنها كرها، يعني مشقة، "وَوَضَعَتْهُ كُرْها" يقول: وولدته كرها يعني مشقة... وقوله: "وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا" يقول تعالى ذكره: وحمل أمه إياه جنينا في بطنها، وفصالها إياه من الرضاع، وفطمها إياه، شرب اللبن ثلاثون شهرا...

وقوله: "حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ"، اختلف أهل التأويل في مبلغ حدّ ذلك من السنين؛ فقال بعضهم: هو ثلاث وثلاثون سنة... عن ابن عباس، قال: أشدّه: ثلاث وثلاثون سنة، واستواؤه أربعون سنة، والعذر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون...

وقال آخرون: هو بلوغ الحلم... عن الشعبيّ، قال: الأشدّ: الحلم إذا كتبت له الحسنات، وكتبت عليه السيئات.

وقد بيّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ، وأنه تناهي قوّته واستوائه. وإذا كان ذلك كذلك، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم، لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه كمال قواه، ونهاية شدّته، فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام، فعطفت ببعض على بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه، كما قال جلّ ثناؤه: "إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدنى مِنْ ثُلُثَي اللّيْل وَنِصْفَهُ" ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله، ولا أخذت قليلاً من مال أو كله، ولكن تقول: أخذت عامة مالي أو كله، فكذلك ذلك في قوله: "حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً" لا شكّ أن نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه، إذ كان يُراد بذلك تقريب أحدهما من الآخر من النسق على الخمس عشرة أو الثمان عشرة.

وقوله: "وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً" ذلك حين تكاملت حجة الله عليه، وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحقّ في برّ والديه...

وقوله: "قالَ رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِي أنْعَمْتَ عَليّ وَعَلى وَالِدَيّ" يقول تعالى ذكره: قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده، وعرف حقّ الله عليه فيما ألزمه من برّ والديه "رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ" يقول: أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك لي للإقرار بذلك، والعمل بطاعتك "وَعَلىَ وَالِدَيّ" من قبلي، وغير ذلك من نعمك علينا، وألهمني ذلك. وأصله من وزعت الرجل على كذا: إذا دفعته عليه...

وقوله: "وأنْ أعمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ" يقول تعالى ذكره: أوزعني أن أعمل صالحا من الأعمال التي ترضاها، وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: "وأصْلِحْ لي في ذُرّيّتِي" يقول: وأصلح لي أموري في ذرّيتي الذين وهبتهم، بأن تجعلهم هداة للإيمان بك، واتباع مرضاتك، والعمل بطاعتك، فوصاه جلّ ثناؤه بالبرّ بالآباء والأمهات والبنين والبنات. وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.

وقوله: "إنّي تُبْتُ إلَيْكَ وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ" يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا الإنسان: "إنّي تُبْتُ إلَيْكَ" يقول: تبت من ذنوبي التي سلفت مني في سالف أيامي إليك "وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ" يقول: وإني من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ووصّينا الإنسان بوالديه إحسانا} وحسنًا؛ كأنه قال: أمرنا الإنسان أن يحسن إلى والديه فالحسن هو اسم ما يقع بهما من البر، وهو المفعول. والإحسان هو اسم فِعْله الذي يفعل بهما...

{حملته أمه كُرها ووضعته كرها} وقال في آية أخرى: {وحملته أمه وهنا على وَهْن} [لقمان: 14]. وقال في آية أخرى: {حملت حملا خفيفا} أي أنها في أول ما حملته [كان] حملا خفيفا، فلما كبر {أثقلت} [الأعراف: 189]. وهو وصف الولد. وقوله تعالى: {وهنا على وهن} وذلك في الأم لأنها لا تزال تضعُف، وتهِن، من أول ما حملت إلى آخر ما وضعت. وقوله تعالى: {حملته أمه كرها ووضعته كرها}، يحتمل وجهين: أحدهما: في أول ما تحمل تجد كراهة في نفسها إلى وقت وضعها. والثاني: يشبه أن يكون على الجمع في الأم دون الولد على اختلاف الأحوال، وهو في الابتداء يخفّ عليها الحمل، ويثقل ذلك عليها إذا دنا وقت وضعها...

وما ذكر من الكراهة فهو إذا تمّ حملها شق ذلك عليها، وكذلك الوضع، لا شك أنّ ذلك يشق عليها...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَحَمْلُهُ وفصاله} ومدّة حمله وفصاله {ثلاثون شَهْراً} وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] بقيت للحمل ستة أشهر. فإن قلت: المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام، فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت: لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهي به ويتم: سمى فصالاً،وفيه فائدة وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته. وبلوغ الأشد: أن يكتهل ويستوفي السنّ التي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين. والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها: نعمة التوحيد والإسلام، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه. وقيل في العمل المرضي: هو الصلوات الخمس. فإن قلت: ما معنى (في) في قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي}؟ قلت: معناه: أن يجعل ذريّته موقعاً للصلاح ومظنة له كأنه قال: هب لي الصلاح في ذرّيتي وأوقعه فيهم.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها، وعقوقهما كبيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين...

ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب، والأب في واحدة، جمعهما الذكر في قوله: {بوالديه}، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، والربع للأب، وذلك إذ قال له رجل: يا رسول الله من أبر؟ «قال: أمك، قال ثم من؟ قال: ثم أمك، قال ثم من؟ قال: ثم أمك، قال ثم من؟ قال: أباك»...

وقوله: {أوزعني} معناه: ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك... والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية، وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل، وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ووصينا الإنسان بوالديه} أمرناه أن يحسن إليهما إحسانا. ثم قال تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: هذا من باب حذف المضاف، والتقدير ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا والفصال الفطام وهو فصله عن اللبن...

{حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي} فهذا يدل على أن توجه الإنسان إلى عالم العبودية والاشتغال بطاعة الله إنما يحصل من هذا الوقت، وهذا تصريح بأن القوة النفسانية العقلية النطقية إنما تبتدئ بالاستكمال من هذا الوقت فسبحان من أودع في هذا الكتاب الكريم هذه الأسرار الشريفة المقدسة، قال المفسرون لم يبعث نبي قط إلا بعد أربعين سنة، وأقول هذا مشكل بعيسى عليه السلام فإن الله جعله نبيا من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال الأغلب أنه ما جاءه الوحي إلا بعد الأربعين...

{حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي} ومعلوم أنه ليس كل إنسان يقول هذا القول، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية إنسانا معينا قال هذا القول، وأما أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السن، لأنه كان أقل سنا من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وشيء، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث عند الأربعين وكان أبو بكر قريبا من الأربعين وهو قد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به...

{وأصلح لي في ذريتي} لأن ذلك من أجل نعم الله على الوالد، كما قال إبراهيم عليه السلام: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} فإن قيل ما معنى {في} في قوله {وأصلح لي في ذريتي}؟ قلنا تقدير الكلام هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم. واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الداعي، أنه طلب هذه الأشياء الثلاثة، قال بعد ذلك {إني تبت إليك وإني من المسلمين} والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة، وإلا مع كونه من المسلمين فتبين أني إنما أقدمت على هذا الدعاء بعد أن تبت إليك من الكفر ومن كل قبيح، وبعد أن دخلت في الإسلام والانقياد لأمر الله تعالى ولقضائه...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" ووصينا الإنسان بوالديه "بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض، قاله القشيري...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} أي: أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما...

{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} أي: قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا، من وِحَام وغشيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة،... {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي: نسلي وعقبي، {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله، عز وجل، ويعزم عليها

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ووصينا الإنسان} أي هذا النوع الذي أنس بنفسه {بوالديه} ولما استوفى {وصى} مفعوليه كان التقدير: ليأتي إليهما حسناً، وقرأ الكوفيون: {إحساناً} وهو أوفق للسياق. ولما كان حق الأب ظاهراً لا له من الكسب والإنفاق والذب والتأديب لم يذكره، وذكر ما للأم لأن أمده يسير، فربما استهين به فقال مستأنفاً أو معللاً: {حملته أمه} أي بعد أن وضعه أبوه بمشاركتها في أحشائها، حملاً {كرهاً} بثقل الحبل وأمراضه وأوصابه وأعراضه {ووضعته} أي بعد تمام مدة حمله {كرهاً} فدل هذا -مع دلالته على وجوب حق الأم- على أن الأمر في تكوينه لله وحده، وذكر أوسط ما للأم من مدة التعب بذكر أقل مدة الحمل وأنهى مدة الرضاع لانضباطها فقال تعالى: {وحمله وفصاله} أي و- مدة حمله وغاية فطامه من الرضاع...

. {ثلاثون شهراً} فانصرف الفصال إلى الكامل الذي تقدم في البقرة فعرف أن أقل مدة الحمل ستة أشهر... {حتى إذا بلغ أشده} قال في القاموس: قوته...

{وبلغ أربعين سنة} -فاجتمع أشده وتم حزمه وجده، وزالت عنه شرة الشباب وطيش الصبا ورعونة الجهل...

{قال} إن كان محسناً قابلاً لوصية ربه: {رب} أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد وتيسير الأبوين وغيرهما وتسخيره {أوزعني} أي اجعلني أطيق {أن أشكر نعمتك} أي وازعاً للشكر أي كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني في وقت من الأوقات، وذلك الشكر بالتوحيد في العبادة كما أنه يوحد بنعمة الإيجاد والترزيق...

{التي أنعمت عليّ} أي بالفعل لوجوب ذلك عليّ لخصوصه بي {وعلى والديّ} ولو بمطلق الإيجاد والعافية في البدن، لأن النعمة عليهما نعمة عليّ...

{وأن أعمل} أي- أنا في خاصة نفسي {صالحاً} -. ولما كان الصالح في نفسه قد يقع الموقع لعدم الإذن فيه قال: {ترضاه} والتنكير إشارة إلى العجز عن بلوغ الغاية فإنه لن يقّدر الله حق قدره أحد... {وأصلح} أي أوقع الإصلاح، وقال: {لي في ذريتي} لأن صلاحهم يلحقه نفعه، والمراد بقصر الفعل وجعلهم ظرفاً له أن يكون ثابتاً راسخاً سارياً فيهم وهم محيطون به فيكونوا صالحين. ولما استحضر عند كمال العقل في الأربعين أن ما مضى من العمر كان أغلبه ضائعاً فدعا، وكان من شرط قبول الدعاء التوبة، علله بقوله: {إني تبت} أي رجعت {إليك} أي عن كل ما يقدح في الإقبال عليك، وأكده إعلاماً بأن حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد منه الإقلاع فينكر إخباره به، وكذا قوله: {وإني من المسلمين} أي الذين أسلموا ظواهرهم وبواطنهم لك فانقادوا أتم انقياد وأحسنه.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} أي: نعم الدين ونعم الدنيا، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلته منته بالاعتراف والعجز عن الشكر والاجتهاد في الثناء بها على الله، والنعم على الوالدين نعم على أولادهم وذريتهم لأنهم لا بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها، خصوصا نعم الدين فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم...

{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} بأن يكون جامعا لما يصلحه سالما مما يفسده، فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله ويثيب عليه...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا.. فهي وصية لجنس الإنسان كله، قائمة على أساس إنسانيته، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا. وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد. فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك... (حملته أمه كرها، ووضعته كرها، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا).. وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال: (حملته أمه كرها. ووضعته كرها).. لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد، ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وطلقه وآلامه ...

... (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك، وإني من المسلمين)...

. ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة، وهي في مفرق الطريق، بين شطر من العمر ولى، وشطر يكاد آخره يتبدى. وهي تتوجه إلى الله: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي).. دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به، المستقل المستصغر لجهده في شكرها. يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله: (أوزعني).. لينهض بواجب الشكر؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير. (وأن أعمل صالحا ترضاه).. وهذه أخرى. فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه. فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها. وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه. (وأصلح لي في ذريتي).. وهذه ثالثة. وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته. وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه. والذرية الصالحة أمل العبد الصالح. وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر. وأروح لقلبه من كل زينة الحياة. والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله. وشفاعته إلى ربه. شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله، هي التوبة والإسلام: (إني تبت إليك وإني من المسلمين)...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمعنى: أنها حملته في بطنها متعبَة من حمله تعباً يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل. ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه. وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الإيمان والعمل الصالح الذي به حصول النعم الخالدة. وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذُكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطولها تستدعي صبرَ الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع. والفصال: الفطام، وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله: {وحملُه} وانتهاءُ الرضاع بقوله: {وفصالُه}. والمعنى: وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهراً...

{حتى} ابتدائية ومعناها...

حتى يبلغ أشده، أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه {قال رب أوزِعْني}، أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه...

فالمعنى: ووصينا الإنسان حُسناً بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد، أي أن لا يفتر عن الإحسان إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما. وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفتُرا عن الإحسان إلى الوالدين. ومعنى {قال ربّ أوزعني} أنه دعا ربه بذلك، ومعناه: أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب...

{وبلغ أربعين سنة} أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله...و {أوزعني}: ألهمني...

{وأصلح لي في ذريتي} استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد...

. {إني تبت إليك} كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية...

.وقال: {من المسلمين} دون أن يقول: وأسلمت كما قال: {تُبت إليك} لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة، وأما الإيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد، وفيه الرعي على الفاصلة. هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمّل، وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وقوله تعالى: {ووصينا الإنسان}، إشارة إلى أن الإحسان إلى الوالدين من مقتضيات "الإنسانية المجردة"، بحيث لا يكون الإنسان إنسانا، ولا يثبت إنسانيته بطريقة عملية، أيا كان دينه أو معتقده، إلا إذا أحسن إلى والديه، برورا بهما، وأداء لحقهما...

ومن وصية الله للإنسان بالإحسان إلى الوالدين انتقل كتاب الله إلى وصف نموذجين من نماذج الأولاد التي يواجهها الآباء والأمهات في حياتهم باستمرار: الأول: نموذج الولد البار المهتدي الذي يمتثل وصية الله بالإحسان إلى والديه، ويقوم بها حق القيام، وهذا له الجزاء الحسن عند الله...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

تتناول هاتان الآيتان، ومن خلال نماذج بشرية محدّدة، كيفية تعاطي المحسنين والظالمين مع الوالدين، كشكلٍ من أشكال العلاقات التي يبنيها الإنسان في حياته...

ونقف مع النموذج الأوّل الذي تحدثت عنه هذه الآيات، وهو نموذج البرّ بالوالدين، وعن الواقع الذي يتحرك في دائرته. {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً} أن يحسن إليهما، وأن يتطلع، بعمقٍ وانفتاح وإنسانيّةٍ، إلى الجهد الذي بذلاه في تربيته، بما لا يبذله أحدٌ معه، ولا يقدّمه إليه إنسانٌ، لا سيّما الأمّ التي تتحمل الجهد الجسدي الشاق في حمله وولادته ورضاعه، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} فكان حملها له مشقة ومعاناة ثقيلة تواجه فيها حالة صحيّة صعبة، حيث يتغير مزاجها ويضطرب وضعها الجسدي بكل أجهزته، وكانت ولادته حركة آلام قاسية في مكابدة الجهد والخطر على الحياة، ولكنها بالرغم من حالة الكره الطبيعي للإحساس الجسدي بالثقل والألم والمعاناة، تتقبل ذلك كله، بالرضى والحنان والعاطفة، فتحتضن ولدها بالعاطفة الدافقة الطاهرة، وتستمر في رعايته في حمله ورضاعه،...

{قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى والِدَيَّ} أي اجعلني أعيش وعي النعمة، إلهاماً روحياً، يلزمني بمسؤولية الشكر لك قولاً وفعلاً يلتزمان سبل ومواقع وغايات رضاك، وبما يحولها إلى طاقةٍ حيّةٍ منفتحةٍ على مواقع القرب منك والحب والصدق لك، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ}، فالإيمان بالله والاعتراف بنعمته يفرض عملياً على الإنسان الذي يتطلع للحصول على رضاه، أن يؤدي في حياته العمل الصالح، وأن يربي أولاده من بعده على الإيمان والعمل الصالح...

{وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين أسلموا كل حياتهم لك، فعاشوا الانتماء إليك وحدك، ورفضوا كل انتماءٍ إلى الآخرين إلاّ من خلالك...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً)...

إنّ التعبير ب (لي) يشير...

إلى أنّه يرجو أن يكون أولاده في وضع من الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه. والتعبير ب (في ذريتي) بصورة مطلقة، يشير الى استمرار الخير والصلاح في كلّ نسله وذريته. والطريف أنّه يشرك أبويه في دعائه الأوّل، وأولاده في الدعاء الثالث، أمّا الدعاء الثّاني فيخص نفسه به، وهكذا يكون الإنسان الصالح، فإنّه إذا نظر إلى نفسه بعين، ينظر بالأُخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته...