تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

الآية 15 وقوله تعالى : { ووصّينا الإنسان بوالديه إحسانا } وحَسَنًا{[19298]} ؛ كأنه قال : أمرنا الإنسان أن يحسن إلى والديه فالحسن هو اسم ما يقع بهما من البر ، وهو المفعول . والإحسان هو اسم فِعْله الذي يفعل بهما .

[ وقوله تعالى ]{[19299]} : { حملته أمه كُرها ووضعته كرها } وقال في آية أخرى : { وحملته أمه وهنا على وَهْن } [ لقمان : 14 ] .

وقال في آية أخرى : { حملت حملا خفيفا } أي أنها في أول ما حملته [ كان ]{[19300]} حملا خفيفا ، فلما كبر { أثقلت } [ الأعراف : 189 ] . وهو وصف الولد .

وقوله تعالى : { وهنا على وهن } وذلك في الأم لأنها لا تزال تضعُف ، وتهِن ، من أول ما حملت إلى آخر ما وضعت .

وقوله تعالى : { حملته أمه كرها ووضعته كرها } [ يحتمل وجهين :

أحدهما : ]{[19301]} في أول ما تحمل تجد كراهة في نفسها إلى وقت وضعها .

والثاني : يشبه أن يكون على الجمع في الأم دون الولد على اختلاف الأحوال ، وهو في الابتداء يخفّ عليها الحمل ، ويثقل ذلك عليها إذا دنا وقت وضعها ، وما ذكر من الوَهْن فهو ما ذكرنا أنها لا تزال تزداد ضعفا فيها ووهنا من أوّل حملها إلى وقت وضعها .

وما ذكر من الكراهة فهو إذا تمّ حملها شق ذلك عليها ، وكذلك الوضع ، لا شك أنّ ذلك يشق عليها .

والتأويل الأول على التفريق : في حال يرجع الوصف إلى الولد ، وفي حال إلى الوالدة .

[ وعلى التأويل ]{[19302]} الثاني : يرجع ذلك كله{[19303]} إلى وصف الأم .

وعلى التأويلين حصل التوفيق بين الآيات لرجوعها إلى اختلاف الأحوال ، فأمكن الجمع بين الكل في أحوال . والاختلاف إنما يكون في حال واحد ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } اختُلف فيه :

قال بعضهم : إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه { حملته أمه كُرها } أي بمشقة { ووضعته كرها } ووضعته بمشقة ، ثم وضعته على تمام ستة أشهر .

وقال بعضهم : الآية نزلت في الحسن والحسين رضي الله عنهما : ووضعته على ما ذكر في المدة .

ثم منهم من يقول : الآية ، وإن نزلت في نازلة بعينها ، لكن ما ذكر من الحكم فذلك في كل إنسان ، وهو أن يكون الولد ثابت النّسب من الأب بهذه المدة .

فإنه يُروى عن عمر رضي الله عنه أنه أُتي بامرأة ، وضعت في ستة أشهر ، فأراد أن يرجمها ، فقال ابن عباس رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قد جعل لها في كتابه مخرجا ، قال الله تعالى : { والوالدات يُرضعن أولادهن حولين كاملين } [ البقرة : 233 ] وقال : { وحملُه وفصاله ثلاثون شهرا } ستة أشهر حملها ، ورضاعه سنتان{[19304]} ، فأخذ بقول ابن عباس رضي الله عنه ودرأ عنها الرّجم .

وكذلك رُوي عن عثمان رضي الله عنه أنه أُتي بامرأة وضعت لستة أشهر ، فهمّ أن يرجُمها ، فقال له ابن عباس رضي الله عنه : أما إنها لو خاصمتكم بكتاب الله خصَمتكُم ، ثم تلا هذه الآية .

وكذلك ذُكر عن علي رضي الله عنه [ أنّ عثمان رضي الله عنه ]{[19305]} لما أمر برجم المرأة التي وضعت لستة أشهر سمع{[19306]} عليّ رضي الله عنه فأتى عثمان رضي الله عنه فقال له : ما صنعت ؟ فقال له عثمان رضي الله عنه : وهل تلد المرأة الولد التامّ لستة أشهر ؟ قال نعم ، ثم تلا عليه هذه الآية .

فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم قد رأوا الآية في كل امرأة وضعت لتلك المدة في حق ذلك الحُكم الذي ذكر ، والله أعلم .

ثم رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[19307]} قال : إذا [ وضعت المرأة لستة أشهر ]{[19308]} أرضعته حولين كاملين لأن الله تعالى عز وجل يقول : { وحملُه وفصاله ثلاثون شهرا } وإذا وضعته لسبعة أشهر أرضعته ثلاثة وعشرين شهرا ، وإذا وضعته لتسعة أشهر أرضعته أحدا وعشرين شهرا . فعلى قياس هذا جائز أنها [ إذا ]{[19309]} وضعته لسنتين يكفيه{[19310]} رضاع ستة أشهر ، يزداد ، وينقص على ذلك القدر .

ألا ترى أنه رُوي أن المرأة التي حملت سنتين ولدت ، وقد نبتت له ثنيّتان ؟ فمثل هذا الولد لا يحتاج من الرضاع ما يحتاج الذي وُلد لستة أشهر ، لذلك كان ما ذكرنا .

ثم إذا احتمل النقصان عن الحولين لما ذكرنا جازت الزيادة على الحولين على ما قال أبو حنيفة ، رحمه الله ، لأن ما ذُكر من الحولين إنما هو رضاع أقل الحمل ، وهو ستة أشهر ، لأن الذي وُلد لستة أشهر كان إلى الاغتذاء بالطعام أبعد من الذي وُلد لتسعة أشهر لضعفه في نفسه ، والذي وُلد لتسعة أشهر فهو إلى الإغتذاء بالطعام أقرب منه ، والذي وُلد لسنتين هو أقرب إلى الاعتذار بالطعام من المولود لتسعة أشهر لضَعفه في نفسه ، والذي وُلد لتسعة أشهر فهو إلى الاغتذاء بالطعام أقرب منه ، والذي وُلد لسنتين هو أقرب إلى الاغتداء بالطعام من المولود لتسعة أشهر لقوّته وقلّة حاجته إلى الغذاء باللبن .

فإذا كان قوله تعالى : { حولين كاملين } [ البقرة : 233 ] هو أقل رضاع ، يكون ، لأنه ذكر للمولود لأقل الحمل حين{[19311]} قال : { وحملُه وفصاله ثلاثون شهرا } . ثم قال : { وفصاله في عامين } [ لقمان : 14 ] .

فإذا كان أقل احتمال الزيادة التي ذكر أبو حنيفة ، وهو ستة أشهر على السنتين كما يصير رضاع أكثر الحمل ستة أشهر ، اعتُبر{[19312]} في الباب إلى قوة الولد وضعفه واحتمال الغذاء بالطعام وعدم الاحتمال ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { حتى إذا بلغ أشُدّه وبلغ أربعين سنة } إلى آخر ما ذكر دلّت هذه الآية على أن الآية التي ذكرنا نزلت في نازلة حين{[19313]} أخبر أنه إذا بلغ ذلك المبلغ { قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت } الآية .

ثم قوله تعالى : { حتى إذا بلغ أشُدّه وبلغ أربعين سنة } ذكر أول ما يشتد عقله ، ويدخل في القوة إلى الوقت الذي يكون على الزيادة ، فإذا جاوز ذلك الوقت يأخذ في الانتفاص ، وهو أربعون سنة .

وقال أهل التأويل : بلوغ الأشد هو ثماني عشرة سنة إلى أربعين ، وهو ما ذكرنا أنه أول وقت دخوله في الزيادة والقوة إلى الوقت الذي إذا بلغ ذلك يأخذ بالنقصان ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { قال رب أوزعني أن أشكُر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ } دلّ قوله تعالى : { عليّ وعلى والديّ } /510-أ/ على أن على الرجل شُكر ما أنعم على والديه وأحسن إليهما كما يُلزمه شكر ما أنعم عليه لمّا يكون بدء إسلام الأولاد الصغار بالوالدين وما لهما من النّعم يصل نفعها إليهم ، فيُلزمهم شكر ما أنعم عليهم بالإيمان والنعم في وقته .

وقوله تعالى : { وأن أعمل صالحا ترضاه } هذا على كل مسلم أن يدعو بمثل هذا الدعاء ؛ يسأل ربه التوفيق على عمل صالح يرضاه .

وقوله تعالى : { وأصلِح لي في ذريتي } هذا يحتمل وجهين{[19314]} :

أحدهما : أي أصلح لي ذريتي ، على طرح حرف { في } منه قوله : { هب لي من لدنك ذرية طيبة } [ آل عمران : 38 ] وقوله تعالى : { فهب لي من لدنك وليًّا } { يرثُني } [ مريم : 5 و6 ] والله أعلم .

ثم قوله تعالى : { أوزعني أن أشكر نعمتك } ألهمني .

وفيه دلالة نقض قول المعتزلة لأنه سأل ربه أن يوزعه شُكر ما أنعم عليه ، ومن قولهم : أن ليس على المرء الشُّكر إلا بعد إعطاء جميع ما به يشكر حتى لا يبقى عنده مزيد ، فيكون مثل هذا الدعاء لعبا وهزءا ، على قولهم لأنهم يسألون ما يعلمون أن ليس عنده ذلك وأنه لا يملك ، وكذلك قوله : { وهما يستغيثان الله } [ الأحقاف : 17 ] .

ومن قولهم : أن ليس عنده ما يُغيثهم ، فيخرج دعاؤهم على ما ذكرنا على مذهبهم ، وبالله العصمة .


[19298]:انظر معجم القراءات القرآنية ج6/ 165.
[19299]:من م، ساقطة من الأصل.
[19300]:ساقطة من الأصل وم.
[19301]:ساقطة من الأصل وم.
[19302]:في الأصل وم: و.
[19303]:في الأصل وم: كل.
[19304]:في الأصل وم: سنتين.
[19305]:من م، ساقطة من الأصل.
[19306]:في الأصل وم: فسمع.
[19307]:ساقطة من الأصل وم.
[19308]:من م، ساقطة من الأصل.
[19309]:ساقطة من الأصل وم.
[19310]:في الأصل وم: أن يكفي.
[19311]:في الأصل وم: حيث.
[19312]:في الأصل وم: واعتبر.
[19313]:في الأصل وم: حيث.
[19314]:سقط الوجه الثاني من الأصل وم ونسخة الحرم المكي.