قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } تقدم نظيره . قرأ الكوفيون : إحْساناً{[50897]} ، وباقي السبعة «حسناً » بضَمِّ الحاء وسكون السين ، فالقراءة الأولى يكون «إحْسَاناً » فيها منصوباً بفعل مقدر أي وصيناه أن يحسن أليهما إِحْسَاناً{[50898]} وقيل : بل هو مفعول به على تضمين وصينا معنى «أَلْزَمْنَا »{[50899]} فيكون مفعولاً ثانياً وقيل : بل هو منصوب على المفعول له ، أي وصَّيْنَا بهما إحْسَاناً منا إليهما{[50900]} . وقيل : هو منصوب على المصدر ، لأن معنى وصينا أحْسَنًّا{[50901]} ، فهو مصدر صريحٌ ، والمفعول الثاني هو المجرور بالباء . وقال ابن عطية : إنها تتعلق إما «بوصَّيْنَا » وإما «بإحْسَاناً »{[50902]} وردَّ عليه أبو حيان هذا الثاني بأنه مصدر مؤول فلا يتقدم معموله عليه ، ولأن «أَحْسَنَ » لا يتعدى بالباء ، وإنما يتعدى باللام لا تقول : أَحْسِنْ بزَيْدٍ على معنى وصول الإحسان إليه{[50903]} . ورد بعضهم هذا بقوله : { أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي } [ يوسف : 100 ] . وقيل : هو بغير هذا المعنى . وقدر بعضهم : ووصينا الإنسان بوالديه ذَا{[50904]} إحْسَانٍ ، يعني فيكون حالاً . وأما «حُسْناً » فقيل فيها ما تقدم في «إحسان » . وقرأ عِيسَى والسُّلَمي بفتحهما{[50905]} . وقد تقدم معنى القراءتين في البقرة{[50906]} وفي لقمان{[50907]} . قال ابن الخطيب : حجة من قرأ إحساناً قوله تعالى في سورة بني إسرائيل : { وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ومعناه أمر بأن يوصل إليهما إحساناً . وحجة القراءة الأخرى قوله تعالى في سورة العنكبوت : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [ العنكبوت : 8 ] ولم يختلفوا فيه . والمراد أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسنا ، كما يقال : هذا الرجل عِلْمٌ وكَرَمٌ{[50908]} . قوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بفتح الكاف{[50909]} ، والباقون بضمها ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، مثل الضَّعْف والضُّعْف ، والفَقْر والفُقْر ، ومن غير المصادر الدَّفُّ ، والدُّفُّ{[50910]} ، والشَّهْدُ والشُّهْدُ وقال الواحدي : الكُرْهُ مصدر من كَرِهْتُ الشيء أَكْرَهُهُ والكَرْهُ الاسمُ كأنه الشيء المكروه ، قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] فهذا بالضم ، وقال : { تَرِثُواْ النساء كَرْهاً } [ النساء : 19 ] فهذا في موضع الحال ، وما كان مصدراً في{[50911]} موضع الحال فالفتح فيه أحسن . وقال أبو حاتم : الكره بالفتح لا يحسن ، لأنه بالفتح الغَصْبُ والغَلبة{[50912]} . ولا يلتفت لما قاله لتواتر هذه القراءة{[50913]} . وانتصابهما إمَّا على الحال من الفاعل أي ذات كره ، وإِمَّا على النعت لمصدر مقدر أي حَمْلاً كُرْهاً{[50914]} .
قال المفسرون : حملته أمُّه مشقةً على مشقةٍ ، ووضعته بمشقَّةٍ وليس المراد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة ، لقوله تعالى : { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ } [ الأعراف : 189 ] فحينئذ حملته كرهاً ووضعته كرهاً يريد شدة الطلق .
دلت الآية على أن حق الأم أعظم لأنه تعالى قال : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } فذكرهما معاً ، ثم خص الأُمَّ بالذكر فقال : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } وذلك يدل على أن حقها أعظمُ وأَنَّ وصول المشاقّ إليهما بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب{[50915]} .
قوله : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ } أي مدة حمله . وقرأ العامة وفِصَالُهُ مَصْدَر «فَاصَل » كأن الأم فَاصَلَتْهُ وهُوَ فَاصَلَهَا{[50916]} . والجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ وقَتَادَةُ : وفَصْلُهُ{[50917]} . قيل : والفَصْلُ والفِصَالُ بمعنى كالعَظْمِ والعِظَامِ والقَطْفِ والقِطَافِ . ولو نصب «ثلاثين » على الظرف الواقع موقع الخبر جاز وهو الأصل ، هذا إذا لم نُقدر مضافاً فإن قدرناه - أي مُدَّة حَمْلِهِ - لم يجز ذلك وتعين الرفع لتصادق الخَبَر والمُخْبَرِ عَنْهُ .
دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرَّضَاع ثلاثونَ شَهْراً وقال تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] فإذا أسقطنا الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر . وروى عكرمة عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ){[50918]} قال : إذا حملتِ المرأةُ تسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرينَ شهراً . وروي عن أبي بكر ( الصديق{[50919]} ) رضي الله عنه أَنَّ امرأةً رفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها . فقال عمر{[50920]} : لا رَجْمَ عليها وذكر الطريق المتقدمة . وعن عقمان نحوه وأنه يعم بذلك فقرأ ابن عباس عليه الآية . وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه{[50921]} .
قوله : { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } لا بد من جملة محذوفة ، تكون «حَتَّى » غاية لها ، أي عاش واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشده{[50922]} ، قال ابن عباس في رواية عطاء الأشد ثماني عشرة سنة وقيل : نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه ، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة{[50923]} ، فذلك قوله : { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وقد مَضَت القِصَّةُ . وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قُحَافَةً عُثْمَانَ بْنِ عمرو ، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو . وقال علي بن أبي طالب : الآية في أبي بكر الصديق أسلم أبواه جميعاً ، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده ، وكان أبو بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة ، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام فلما بلغ أربعين سنة ، ونُبِّىء النبيُّ صلى الله عليه وسلم آمن به ودعا ربه فقال : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ } بالهداية والإيمان{[50924]} . وأكثر المفسرين على أن الأشد ثلاثُ وثلاثون سنةً{[50925]} .
قال ابن الخطيب : مراتب سن الحيوان ثلاثة ، لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية ، والرطوبة الغريزية زائدة في أول العمر ، وناقصة في آخر العمر والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلى إذا حصل الاستواء في وسط هاتين{[50926]} المدتين فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام :
فأولها : أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية ، وحينئذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذَوَاتِها وزيادتها في الطول والعرض والعُمْق وهذا هو سن النُّشُوِّ ( والانتماء{[50927]} ) .
والثانية : وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافيةً بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نُقْصَان ، وهذا هو سنّ الوقوف وهو سِنّ الشباب .
والمرتبة الثالثة : أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية . ثم هذا النقصان على قسمين :
فالأول : هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة . والثاني : هو النقصان الظاهر وهو سن الشَّيْخُوخَةِ{[50928]} .
قوله : «أَرْبَعِينَ » أي تمامها ، «فأربعين » مفعول به . قال المفسرون : لم يبعث نَبِيٌّ قَطُّ إلاَّ بعد أربعين سنة . قال ابن الخطيب : وهذا يشكل بعيسى عليه الصلاة والسلام فإنه تعالى جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال : الأغلب أن ما جاء( ه ){[50929]} الوحي إلا بعد الأربعين وهكذا كان الأمر في حق نبينا صلى الله عليه وسلم{[50930]} .
قوله : «أَوْزِعْنِي » قال ابن عباس ( رضي الله{[50931]} عنهما ) معناه أَلْهِمْنِي{[50932]} . قال الجوهري : أَوْزَعْتُهُ أَغْرَبْتُهُ به ، فَأُوزعَ بِه فَهو مُوزعٌ به أي مُغْرّى به ، واسْتَوْزَعْتُ اللهَ فَأَوْزَعَنِي أي اسْتَلْهَمْتُهُ فأَلْهَمَنِي{[50933]} .
قوله : { وأَن أعمل صالحاً ترضاه } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما{[50934]} ) أجاب الله عزَّ وجَلَّ دعاء أبي بكر ، فأعتق تعسةً من المؤمنين يُعَذَّبُونَ في الله ، منهم بلالٌ ، وعامرُ بنُ فُهَيْرة ، فلم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه{[50935]} . ودعا أيضاً فقال : { فَأَصْلِح لِي فِي ذُرِّيَّتِي } فأجاب الله تعالى فلم يكن له ولد{[50936]} إلا آمنوا جميعاً . فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً . فأدرك أبو قحافة النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وابنه أبو بكر ، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ، وابن عبد الرحمن أبو عتيق ، كلهم أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة{[50937]} .
قوله : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } أصلح يتعدى بنفسه لقوله : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] وإنَّمَا تعدى ب «في » لتضمنه معنى : الطف بي في ذريتي{[50938]} أو لأنه جعل الذرية طرفاً للاصلاح{[50939]} كقوله :
4452 يَخْرُجُ فِي عَرَاقِيها نُصَلِّي{[50940]}
والمعنى هب لي الصلاح في ذريتي ، وأوقعه فيهم .
قوله : { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين } والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة ، ومع كونه من المسلمين{[50941]} .