المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ثُمَّ جَعَلۡنَٰهُ نُطۡفَةٗ فِي قَرَارٖ مَّكِينٖ} (13)

ويجيء الضمير في قوله { ثم جعلناه } عائداً على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر وأن المعنى لا يصلح إلا له ، نظير ذلك { حتى توارت بالحجاب }{[8459]} [ ص : 32 ] وغيره ، وقال ابن عباس وغيره المراد بقوله { الإنسان } ابن آدم ، و { سلالة من طين } صفوة الماء ع وهذا على أنه اسم الجنس ويترتب فيه أَنه سلالة من حيث كان الكل عن آدم أو عن أبويه المتغذيين بما يكون من الماء والطين وذلك السبع الذي جعل الله رزق ابن آدم ، وسيجيء قول ابن عباس فيها إن شاء الله{[8460]} ، وعلى هذا يجيء قول ابن عباس : إن «السلالة » هي صفوة الماء يعني المني ، وقال مجاهد { سلالة من طين } : مني آدم ع وهذا نبيل إذ آدم طين وذريته من سلالة ، وما يكون عن الشيء فهو سلالته ، وتختلف وجوه ذلك الكون فمنه قولهم للخمر سلالة لأنها سلالة العنب ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

إذا أنتجت منها المهار تشابهت . . . على العود إلا بالأنوف سلائله{[8461]}

ومن اللفظ قول هند بنت النعمان بن بشير :

سليلة أفراس تجللها بغل{[8462]} . . . ومنه قول الآخر [ حسان بن ثابت ] : [ الطويل ]

فجاءت به عضب الأديم غضنفراً . . . سلالة فرج كان غير حصين{[8463]}

وهذه الفرقة يترتب مع قولها عود الضمير في «جعلنا وأنشأنا » و { النطفة } تقع في اللغة على قليل الماء وعلى كثيره ، وهي هنا لمني ابن آدم ، و «القرار المكين » من المرأة هو موضع الولد ، و «المكين » المتمكن فكأن القرار هو المتمكن في الرحم .


[8459]:من الآية (32) من سورة (ص).
[8460]:سيأتي ذلك عند تفسير قوله تعالى: {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق}، وسيبين المؤلف السبع التي جعل الله تعالى رزق ابن آدم فيها.
[8461]:البيت شاهد على أن السلائل جمع سلالة، وأن السلالة هي ما يكون عن الشيء، أو ما ينسل منه، ويختلف الانسلال باختلاف الأشياء، والمهر ولد الفرس، والإبل المهرية منسوبة إلى حي عظيم هم ولد مهرة بن حيدان، وجمعها مهارى ومهار، والعود: الجمل المسن وفيه بقية، والرواية في الطبري: "على القود"، ولم أجد هذا البيت في معاجم اللغة، ولا في كتب التفسير إلا الطبري، ولا في معاني القرآن للفراء، أو في مجاز القرآن لأبي عبيدة.
[8462]:هذا عجز بيت ذكره في اللسان (سلل) ونسبه إلى هند بنت النعمان كما قال ابن عطية، والبيت بتمامه: وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل والرواية في الطبري: (وهل كنت إلا مهرة) والمهر، أول ما ينتج من الخيل والحمر الأهلية، والأنثى مهرة. وتجللها: علاها، ويروى: تحللها ـ بالحاء المهملة ـ أي جعلها حليلة له، والسليلة: بنت الرجل من صلبه، والمراد بالبغل هنا الرجل الذي يشبه البغل، والبغل مذموم مكروه. تندب حظها وتقول: إنها مهرة عربية أصيلة وقد تزوجت رجلا فظا يشبه البغل في صفاته وطباعه، وقد قيل: إن كلمة بغل تصحيف عن نغل بالنون، وهو الخسيس من الناس والدواب، وذلك لأن البغل لا ينسل، ونميل إلى غير هذا؛ لأنها إنما أرادت سوء حظها، وأنها برقتها وجمالها وأصالتها قد نكبت بهذا البغل بما فيه من فظاظة وجلافة وانعدام الحساسية والذوق.
[8463]:البيت لحسان بن ثابت، وهو في اللسان أيضا (سلل)، وفي الطبري، والقرطبي، ورواية الطبري: "حملت به" بدلا من "فجاءت به"، ويستشهدون به على أن السلالة هي نطفة الإنسان، وأن سلالة الشيء هي ما استل منه، وعضب الأديم: غليظ الجلد، يعني أنه شديد قوي الجلد، وقد قال محقق اللسان: "لعله بالصاد المهملة بدلا من الضاد؛ لأن هذا التعبير غير موجود في اللغة.