المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ} (14)

و { العلقة } الدم الغريض ، و { المضغة } بضعة اللحم قدر ما يمضغ ، وقرأ الجمهور { عظاماً } في الموضعين ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «عظماً » بالإفراد في الموضعين ، وقرأ السلمي وقتادة والأعرج والأعمش بالإفراد أولاً وبالجمع في الثاني ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء وإبراهيم بن أَبي بكير بعكس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، «ثم جعلنا المضغة عظاماً وعصباً فكسوناه لحماً » ، واختلف الناس في «الخلق الآخر » ، فقال ابن عباس والشعبي وأَبو العالية والضحاك وابن زيد : هو نفخ الروح فيه ، وقال ابن عباس أيضاً : خروجه إلى الدنيا ، وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره ، وقال مجاهد : كمال شبابه وقال ابن عباس أيضاً : تصرفه في أمور الدنيا .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجوه من النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها { آخر } ، وأول رتبة من كونه { آخر } هي نفخ الروح فيه ، والطرف الآخر من كونه { آخر } تحصيله المعقولات ، و «تبارك » مطاوع بارك فكأنها بمنزلة تعالى وتقدس من معنى البركة ، وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله { آخر } قال { فتبارك الله أَحسن الخالقين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت{[8464]} ، ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه{[8465]} ، ويروى أَن قائل ذلك هو عبد الله بن أَبي سرح وبهذا السبب ارتد ، وقال أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد وفيه نزلت :

{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله }{[8466]} [ الأنعام : 93 ] ، الآية وقوله { أحسن الخالقين } معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئاً خلقه ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]

ولأنت تفري ما خلقت . . . وبعض القوم يخلق ثم لا يفري{[8467]}

وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس ، فقال ابن جريج : إنما قال { الخالقين } لأَنه تعالى قد أذن لعيسى في أَن يخلق ، واضطرب بعضهم في ذلك{[8468]} ، ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع وإنما هي منفية الاختراع والإيجاد من العدم ، ومن هذه الآية قول ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا الله أعلم ، فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الله خلق السماوات سبعاً ، والأرضين سبعاً ، وخلق ابن آدم من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، فأراها في ليلة سبع وعشرين ، فقال : آعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أَبي شيبة فأراد ابن عباس بقوله خلق ابن آدم من سبع هذه الآية ، وبقوله جعل رزقه في سبع قوله { فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأبّا }{[8469]} [ عبس : 27 ] الآية السبع منها لابن آدم والأب للأنعام والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء هذا قول ، وقيل القضب البقول لأنها تقضب فهي رزق ابن آدم ، وقيل : القضب والأب للأنعام والستة الباقية لابن آدم والسابعة هي الأنعام إذ هي من أعظم رزق ابن آدم .


[8464]:أخرج الطيالسي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع: قلت: يا رسول الله، لو صليت خلف المقام، فأنزل الله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت على نسائك حجابا فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب}، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: لتنتهن أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، فأنزلت {عسى ربه إن طلقكن} الآية، ونزلت {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الآية ... إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقا آخر}، فقلت أنا: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فنزلت {فتبارك الله أحسن الخالقين}. وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الآية قال عمر رضي الله عنه: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فنزلت {فتبارك الله أحسن الخالقين}. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن صالح أبي الخليل، قال: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقا آخر}،قال عمر: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فقال: والذي نفسي بيده إنها ختمت بالذي تكلمت به يا عمر.
[8465]:أخرج ابن راهويه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، عن زيد بن ثابت قال: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله: { خلقا آخر}، فقال معاذ بن جبل: "فتبارك الله أحسن الخالقين"، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال معاذ: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: إنها ختمت {فتبارك الله أحسن الخالقين}.
[8466]:هذه هي الآية (93) من سورة (الأنعام)، وقد قيل: إنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين، وسبب ذلك أنه لما نزلت آية المؤمنين هذه دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: { خلقا آخر} قال عبد الله متعجبا من هذا التفصيل: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هكذا أنزلت علي)، فشك عبد الله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، راجع الجزء الخامس صفحة 286 وما بعدها.
[8467]:البيت لزهير بن أبي سلمى، وهو في الديوان، والطبري، والقرطبي، واللسان، والتاج، ومختار الشعر الجاهلي، وهو من قصيدة له يمدح بها هرم بن سنان، ومطلعها: "لمن الديار بقنة الحجر"، وتفري: تقطع، و "ما خلقت" معناها: ما قدرت وهيأت للقطع، والفري: القطع بعد التقدير، ويقال: خلق الأديم خلقا، بمعنى قدره لما يريد قبل القطع، وقاسه ليقطع منه مزادة أو قربة، ولذلك تسمي العرب كل صانع كالنجار والخياط خالقا، وهذا هو موضع الشاهد، يقول لهرم: أنت إذا قدرت أمرا قطعته، أي أنفذته وأمضيته، وغيرك يقدر ثم لا ينفذ لأنه ليس مثلك ماضي العزم.
[8468]:كثر الكلام في المعنى المراد بهذه الآية، وفي الجمع بينها وبين قوله تعالى في الآية (3) من سورة (فاطر): {هل من خالق غير الله}، ومن أحسن ما قيل في ذلك هو ما أشار إليه ابن عطية في تفسيره لمعنى قول الله هنا: {أحسن الخالقين}، وهو أن خلق يكون بمعنى الإيجاد ولا موجد سوى الله تعالى، ويكون بمعنى التقدير كما في قول زهير، وهو المراد هنا. فأبناء آدم قد يصنعون ويقدرون، والله تعالى هو خير الصانعين والمقدرين.
[8469]:الآيات (27 ـ 31) من سورة (عبس).