كأنه قال وما من دابة ولا طائر ولا شيء إلا فيه آية منصوبة على وحدانية الله تعالى ، ولكن الذين كذبوا صم وبكم لا يتلقون ذلك ولا يقبلونه ، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب ، وقال النقاش نزلت في بني عبد الدار{[4910]} .
قال القاضي أبو محمد : ثم انسحبت على سواهم ، ثم بيّن أن ذلك حكم من الله عز وجل بمشيئته في خلقه فقال مبتدئاً الكلام { من يشأ الله يضلله } شرط وجوابه{[4911]} ، وقوله : { في الظلمات } ينوب عن «عمي » ، وفي الظلمات أهول عبارة وأفصح وأوقع في النفس ، والصراط الطريق الواضح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين كذبوا بآياتنا}، يعني القرآن، {صم} لا يسمعون الهدى، {وبكم} لا يتكلمون به، {في الظلمات}، يعني الشرك، {من يشإ الله يضلله} عن الهدى، {ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}، يعني على دين الإسلام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بحجج الله وأعلامه وأدلته، صمّ عن سماع الحق بكمٌ عن القيل به "في الظّلُمَاتِ": في ظلمة الكفر حائر فيها، يقول: هو مرتطم في ظلمات الكفر، لا يبصر آيات الله فيعتبر بها، ويعلم أن الذي خلقه وأنشأه فدبره وأحكم تدبيره وقدّره أحسن تقدير وأعطاه القوّة وصحح له آلة جسمه، لم يخلقه عبثا ولم يتركه سدى، ولم يعطه ما أعطاه من الآلات إلاّ لاستعمالها في طاعته وما يرضيه دون معصيته وما يسخطه، فهو لحيرته في ظلمات الكفر وتردّده في غمراتها، غافل عما الله قد أثبت له في أمّ الكتاب وما هو به فاعل يوم يحشر إليه مع سائر الأمم. ثم أخبر تعالى أنه المضلّ من يشاء إضلاله من خلقه عن الإيمان إلى الكفر والهادي إلى الصراط المستقيم منهم من أحبّ هدايته فموفقه بفضله وطوله للإيمان به وترك الكفر به وبرسله وما جاءت به أنبياؤه، وأنه لا يهتدي من خلقه أحد إلاّ من سبق له في أمّ الكتاب السعادة، ولا يضلّ منهم أحد إلاّ من سبق له فيها الشقاء، وأن بيده الخير كله، وإليه الفضل كله، له الخلق والأمر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين كذبوا بآياتنا} قال الحسن {بآياتنا}: ديننا، وقال غيره {بآياتنا} حججنا: حجج وحدانيته وألوهيته وحجج الرسالة والنبوة. ويحتمل آيات البعث؛ كذبوا بذلك كله. وقد ذكرنا هذا في غير موضع. وقوله تعالى: {صم وبكم} هو ما ذكرنا أنه نفى عنهم السمع واللسان والبصر لما لم يعرفوا نعمة السمع ونعمة البصر ونعمة اللسان. ولا يجوز أن يجعل لهم السمع والبصر واللسان، ثم لا يكلمهم ما يسمعون بالسمع وما ينطقون باللسان. دل أنه يحتاج إلى رسول يسمعون منه، ويستمعون إليه، وينطقون ما علمهم. فإذا لم يفعلوا صاروا كما ذكر {صم بكم عمي} [البقرة: 18 و 171] لما لم ينتفعوا به، ولم يعرفوا نعمه التي جعل لهم في ما ذكر، ونفى عنهم السمع والبصر واللسان لما ذكرنا أن السمع والبصر والحياة على ضربين: مكتسب ومنشأ، فنفى عنهم السمع المكتسب والبصر المكتسب والحياة المكتسبة... وقوله تعالى: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} يهده. وصف عز وجل نفسه بالقدرة، وجعلهم جميعا متقلبين في مشيئته، وأخبر أنه شاء لبعضهم الهدى. فمن قال: إنه شاء للكل الهدى، لكن لم يهتدوا، أو شاء للكل الضلال، فهو خلاف ما ذكره عز وجل؛ لأنه أخبر أنه شاء الضلال لمن ضل، وشاء الهدى لمن اهتدى.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الذين فاتتهم العناية الأزلية سَدَّ الحرمانُ أسماعَهم، وغَشَّى الخِذلان أبصارَهم. والإرادة لا تُعارَض، والمشيئةُ لا تُزَاحَم، والحقُّ -سبحانه- في جميع الأحوالِ غالبٌ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف أتبعه قوله: {والذين كَذَّبُواْ بآياتنا}؟ قلت: لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال: والمكذبون {صُمٌّ} لا يسمعون كلام المنبه {وَبُكْمٌ} لا ينطقون بالحق، خابطون في ظلمات الكفر، فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه، ثم قال إيذاناً بأنهم من أهل الطبع {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} أي يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به، لأنه ليس من أهل اللطف {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} أي يلطف به لأنّ اللطف يجدي عليه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
كأنه قال وما من دابة ولا طائر ولا شيء إلا فيه آية منصوبة على وحدانية الله تعالى، ولكن الذين كذبوا صم وبكم لا يتلقون ذلك ولا يقبلونه، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب، ثم بيّن أن ذلك حكم من الله عز وجل بمشيئته في خلقه فقال مبتدئاً الكلام {من يشأ الله يضلله} شرط وجوابه، وقوله: {في الظلمات} ينوب عن «عُمي»، وفي الظلمات أهول عبارة وأفصح وأوقع في النفس، والصراط الطريق الواضح.
المسألة الأولى: في وجه النظم قولان: الأول: أنه تعالى بين من حال الكفار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كأن قلوبهم قد صارت ميتة عن قبول الإيمان بقوله {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله} فذكر هذه الآية تقريرا لذلك المعنى. الثاني: أنه تعالى لما ذكر في قوله {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} في كونها دالة على كونها تحت تدبير مدبر قديم وتحت تقدير مقدر حكيم، وفي أن عناية الله محيطة بهم، ورحمته واصلة إليهم، قال بعده: والمكذبون لهذه الدلائل والمنكرون لهذه العجائب صم لا يسمعون كلاما البتة، بكم لا ينطقون بالحق، خائضون في ظلمات الكفر، غافلون عن تأمل هذه الدلائل... ثم قال تعالى: {من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} أي: مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم -وهو الذي لا يسمع- أبكم -وهو الذي لا يتكلم- وهو مع هذا في ظلام لا يبصر، فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق، أو يُخْرج مما هو فيه؟ كما قال تعالى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة: 17، 18]،} وكما قال [تعالى] {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]؛ ولهذا قال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: هو المتصرف في خلقه بما يشاء.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات} أي والكفار الذين كذبوا بآياتنا المنزلة وما أرشدت إليه من آياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق ما جاء به رسولنا تكذيب جحود واستكبار، أو تكذيب جمود على تقليد الآباء وطاعة الكبراء، صم لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع فهم وقبول، وبكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق ولا يقرون بما يدعوهم إليه الرسول، متسكعون – أو حال كونهم متسكعين خابطين – في تلك الظلمات الحالكة – ظلمة الشرك والوثنية، وظلمة تقاليد الجاهلية، وظلمة كبرياء العصبية، -وظلمة الجهل والأمية،- ظلمات بعضها فوق بعض، لا ينفذ منها إليهم من نور الهداية شيء، فهم لا يبصرون صراطها، ولا يرون منهاجها، وذلك ما جنوه على أنفسهم بسوء اختيار الأفراد وفساد تربية المجموع، ولكل سيرة غاية تنتهي إليها بحسب سنن الله التي قضت بها حكمته، ونفذت بها مشيئته.
{من يشأ الله يضلله} أي من تعلقت مشيئة الله بإضلاله يضلله كما أضل هؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى فلم يستعملوا أسماعهم ولا أفواههم ولا عقولهم في آيات الله تعالى الدالة على حقية ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما إضلاله إياهم اقتضاء سننه في عقول البشر وغرائزهم وأخلاقهم أن يعرض المستكبر عن دعوة من يراه دونه، وإتباع من يراه مثله، وإن ظهر له أن الحق معه، وأن يعرض المقلد عن النظر في الآيات والدلائل التي تنصب لبيان بطلان تقاليده وإثبات خلافها، ما دام مغرورا بها مكبرا لمن جرى من الآباء والكبراء عليها. وليس معنى ذلك أن يخلق الله تعالى الضلال لمن شاء إضلاله خلقا، ويجعله له غريزة وطبعا، ولا أن يلجئه إليه إلجاء، ويكرهه عليه إكراها، فيكون إعراضه عن الحق والخير وإقباله على الباطل والشرك حركة الدم في الجسد، وعمل المعدة في الهضم.
{ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم (39)} أي ومن يشأ هدايته واستقامته يجعله على طريق مستقيم، وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه، ولا ينجو تاركه، بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله في آيات الله المنزلة وآياته المكونة، استعمالا يعرف به الحق ويعترف به، ويعرف به الخير ويعمل به، بحسب سننه سبحانه وتعالى في الارتباط بين الأعمال البدنية، والعقائد والوجدانات النفسية، وليس معناه أن يخلق له الهداية خلقا كما خلق روحه وبدنه، ولا أنه يجبره عليها فيلصق به كارها غير مختار، وفي القرآن آيات كثيرة تدل على أن مشيئة الإضلال إنما تتعلق بأصحاب الأعمال الكسبية التي هي الضلال أو سبب الضلال ومشيئة الهداية تتعلق بما يقابل ذلك.
قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179] وقال تعالى: {ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} [إبراهيم: 27] وقال: {وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] كما قال: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور} [المائدة: 16] فالجمع بين الآيات هو الموافق لفطر البشر وعقولهم وإن خالف بعض نظريات المعتزلة والجبرية والأشعرية، فليس الإنسان خالقا لأفعال نفسه مستقلا بها دون مشيئة خالقه وسننه في خلقه، ولم يجعل الرب ما يصدر عن الناس من الإيمان والكفر والخير والشر من قبيل ما خلقه لهم من حركات دمائهم في أبدانهم، وأعمال معدهم وأمعائهم، ولا من قبيل حركات المرتعش منهم، فلا نغلو في التنزيه والحكمة الإلهية غلوا نجعل به ضلال من ضل واقعا بغير مشيئة الله تعالى مقدر المقادير وواضع السنن الحكيمة في الخلق كله، ولا نغلو في المشيئة منافية للحكمة والرحمة، سالبة لما علم من فطرة الله بالضرورة.
وقد زعم بعض المعتزلة أن الآية في بيان ما يكون عليه الكافرون والمؤمنون في الآخرة كما قال في آية أخرى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما} [الإسراء: 97] قال وإن المراد بالإضلال إضلالهم عن طريق الجنة جزاء لهم، ويقابله جعل المتقين على صراط موصل إلى الجنة. ويرد هذا التأويل ورود الآية في وصف حال المكذبين بآيات الله في سياق إقامة الحجج عليهم، وليس فيها ذكر للآخرة ولا هي واردة في سياق الجزاء، وإسناد الإضلال إلى الله تعالى لا يقتضي إخراجها عن ظاهرها فمثله في القرآن كثير.
ومن نكت البلاغة في الآية أن قوله تعالى: {صم وبكم في الظلمات} في معنى قوله في سورة البقرة {صم بكم عمي} [البقرة: 18] فلماذا سردت الصفات الثلاث في البقرة مفصولة ووصلت كلها بالعطف في آية الإسراء التي ذكرناها آنفا، وعطفت الثانية على الأولى هنا دون قوله: {في الظلمات} الذي هو في معنى الثالثة؟ لم أر لأحد كلاما في الفرق بين هذه الآيات ولكن ذكر في روح المعاني أن العطف بين الصم والبكم لتلازمهما وتركه فيما بعدهما للإيماء إلى أنه كاف للإعراض عن الحق.
والذي يظهر لنا في المقابلة أن ترك العطف في آيتي البقرة لبيان أن هذه الصفات لاصقة بالموصوفين بها مجتمعة في آن واحد – والأولى منهما في المختوم على قلوبهم الميؤوس من إيمانهم من المنافقين وغيرهم، والثانية في المقلدين الجامدين – وكل منهما لا يستمع الدعوة الحق عند تلاوة القرآن وغيره ولا يسأل الرسول ولا غيره من المؤمنين عما يحوك في قلبه ويجول في ذهنه من الكفر والشك، ولا ينطق بما عساه يعرف من الحق، ولا يستدل بآيات الله المرئية في نفسه ولا الآفاق، فكأنه أصم أبكم أعمى في آن واحد.
وأما الآية التي نفسرها فهي في مشركي مكة ولم يكونوا كلهم من المختوم على قلوبهم الميئوس من إيمانهم، ولا من المقلدين الجامدين الذين لا ينظرون في شيء من الآيات الإلهية المنزلة والمكونة، بل كان منهم الجامد على التقليد والإعراض عن سماع القرآن حتى كأنه أصم {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستدبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا} [لقمان: 7] ومنهم من يسمع ويعلم أنها الحق ولكنه لا ينطق بما يعلم عنادا، فهذان فريقان منفصلان عطف أحدهما على الآخر لبيان هذا الانفصال.
وقوله « في الظلمات» إما حال منهما لبيان أن كلا منهما خابط في الظلمات المشتركة كظلمتي الشرك والجهل، أو الخاصة بفريق دون آخر كظلمتي التقليد والكبر، فبعض المقلدين غير مستكبرين وهم الفقراء، وبعض المستكبرين غير جامدين على تقليد الآباء، وأما صفة البكم فيكون المكذبون المحكي عنهم قسمين كل منهما فريقان:
الأول: الذين شبهوا بالصم وهم الذين لا يسمعون القرآن مطلقا، استغناء عن هدايته بضلالهم ومشاغبة للداعي إليه {وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 36] والذين لا يسمعون سماع فهم وتأمل، لتوهمهم عدم الحاجة إلى دين غير دين آبائهم، أو لأن رؤساءهم ينهونهم ويصدونهم عنه، ولم يوصف هؤلاء بأنهم في الظلمات – على هذه الوجه لأن سماعهم مرجو وهدايتهم مأمولة عند زوال المانع.
الثاني: الذين شبهوا بالبكم وهم الذين عرفوا الحق واستيقنوا صدق الرسول بالآيات والدلائل، ولكنهم يكتمونها أو يجحدون بها كبرا وعنادا، لا تكذيبا له ولا إكذابا، كما تقدم قريبا في الآية 37 – والذين لم يعرفوا الحق ولم يسألوا ولم يبحثوا فهم كالبكم لعدم استفادتهم من الكلام. ووصف هذا الفريق من البكم – وهم الجاهلون – بأنهم في الظلمات لأنهم لا ينظرون في دلالة الآيات المرئية، ووصف بذلك الفريق الأول أيضا – وهم المستكبرون – لأنهم لا تؤثر في قلوبهم رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته القدسية، وقد كانت شمائله الشريفة المرضية، وروحانيته التي هي أقوى من الكهربائية، تؤثر في النفوس المستعدة فتجذبها إلى الإيمان، من غير حاجة إلى إقامة حجة ولا تأليف برهان، وقد كان يجيئه الأعرابي السليم الفطرة ممتحنا أو معاديا فإذا رآه آمن وقال ما هذا وجه كذاب. ودخل عليه رجل فأخذته رعدة شديدة من مهابته فقال له صلى الله عليه وسلم « هون عليك فإني لست بملك ولا جبار إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة» 50 فنطق الرجل بحاجته. رواه الحاكم من حديث جابر وقال صحيح على شرط الشيخين.
ومن الشواهد المؤيدة لما ذكرنا من التقسيم قوله تعالى في سورة يونس {ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون} [يونس: 42، 43] وأما آية الإسراء فلا يظهر فيها هذا التقسيم، ولا معنى ما دلت عليه آيتا البقرة من إرادة اجتماع تلك الصفات الثلاث الحائلة دون جميع طرق الهداية. وإنما تفيد أن هذه العلل تعرض لهم حالات وأوقات مختلفة من يوم الحشر والجزاء، فيكونون عميا هائمين في الظلمات على وجوههم {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم} [الحديد: 12] فلا يرون الطريق الموصل إلى الجنة عند ما يساق أهلها إليها، ويكونون بكما يوم {لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات: 35، 36] وذلك في بعض مواقف القيامة وأحوالها، ويكونون صما لا يسمعون شيئا يسرهم، عندما يسمع المؤمنون المتقون بشرى المغفرة من ربهم. ويؤيد هذا التفسير مجموع ما ورد في الآيات والروايات من بيان حال الكفار في الآخرة وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنه فظهر الفرق بينه وبين آيتي البقرة المراد بهما اجتماع الصم والبكم والعمى في حال واحدة ووقت واحد كأنها صفة واحدة، ولو حصل بعضها دون بعض لما أفادت أنهم لا يؤمنون.
وتأمل كيف بدأ بذكر الصم في سياق الكلام عن دعوة الإسلام وبيان إعراضهم عن قبولها، وبدأ بذكر العمي في سياق الكلام عن الحشر، فيالله العجب من دقائق بلاغة هذا القرآن التي أعجزت البشر، وكلما غاص غائص في بحارها استفاد شيئا جديدا من فرائد الدرر، فلا تنفد عجائب إعجاز مبانيه، ولا تنتهي عجائب إعجاز معانيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن اتجاه الإنسان إلى طلب الهدى، أو اتجاهه إلى الضلال، كلاهما ينشأ من خلقته التي فطره الله عليها بمشيئته. فهذا الاتجاه وذاك مخلوق ابتداء بمشيئة الله. والنتائج التي تترتب على هذا الاتجاه وذاك من الاهتداء والضلال إنما ينشئها الله بمشيئته كذلك. فالمشيئة فاعلة ومطلقة. والحساب والجزاء إنما يقومان على اتجاه الإنسان الذي يملكه، وإن كان الاستعداد للاتجاه المزدوج هو في الأصل من مشيئة الله. ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين -ودور الدعاة بعده في كل جيل- إنه التبليغ، والمضي في الطريق، والصبر على مشاق الطريق.. أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته.. والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل، ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب، كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب.. إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية، وحسابه ليس على عدد المهتدين، إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم، وما استقام كما أمر.. وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس.. (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم).. (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. والمراد بالذين كذّبوا المشركون الذين مضى الكلام على أحوالهم عموماً وخصوصاً.
وقوله: {صمّ وبكم في الظلمات} تمثيل لحالهم في ضلال عقائدهم والابتعاد عن الاهتداء بحال قوم صمّ وبُكم في ظلام. فالصّمم يمنعهم من تلقِّي هدى من يهديهم، والبكَم يمنعهم من الاسترشاد ممّن يمرّ بهم، والظلام يمنعهم من التبصّر في الطريق أو المنفذ المخرج لهم من مأزقهم.
وإنَّما قيل في {الظلمات} ولم يوصفوا بأنَّهم عُمّي كما في قوله: {عُميا وبُكما وصمّا} [الإسراء: 97] ليكون لبعض أجزاء الهيئة المشبَّهة بها ما يصلح لشبه بعض أجزاء الهيئة المشبَّهة، فإنّ الكفر الذي هم فيه والذي أصارهم إلى استمرار الضلال يشبه الظلمات في الحيلولة بين الداخل فيه وبين الاهتداء إلى طريق النجاة. وفي الحديث: « الظلم ظلمات يوم القيامة» فهذا التمثيل جاء على أتمّ شروط التمثيل. وهو قبوله لتفكيك أجزاء الهيئتين إلى تشبيهات مفردة..
وجمع الظلمات جار على الفصيح من عدم استعمال الظلمة مفرداً. وقد تقدّم في صدر السورة، وقيل: للإشارة إلى ظلمة الكفر، وظلمة الجهل، وظلمة العناد.
وقوله: {صمّ وبكم} خبر ومعطوف عليه. وقوله: {في الظلمات} خبر ثالث لأنّه يجوز في الأخبار المتعددة ما يجوز في النعوت المتعدّدة من العطف وتركه.
وقوله: {من يشأ الله يضلله} استئناف بياني لأنّ حالهم العجيبة تثير سؤالاً وهو أن يقول قائل ما بالهم لا يهتدون مع وضوح هذه الدلائل البيّنات، فأجيب بأنّ الله أضلّهم فلا يهتدون، وأنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، فدلّ قوله: {من يشأ الله يضلله} على أنّ هؤلاء المكذّبين الضالّين هم ممَّن شاء الله إضلالهم على طريقة الإيجاز بالحذف لظهور المحذوف، وهذا مرتبط بما تقدّم من قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} [الأنعام: 35].
ومعنى إضلال الله تقديره الضلال؛ بأن يخلق الضّالّ بعقل قابل للضلال مُصرّ على ضلاله عنيد عليه فإذا أخذ في مبادىء الضلال كما يعرض لكثير من الناس فوعظه واعظ أو خطر له في نفسه خاطر أنَّه على ضلال منعه إصراره من الإقلاع عنه فلا يزال يهوي به في مهاوي الضلالة حتَّى يبلغ به إلى غاية التخلّق بالضلال فلا ينكفّ عنه.
وهذا ممّا أشار إليه قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين} [التين: 4، 5]، ودلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم « إنّ الرجل ليَصْدُق حتَّى يكون صدّيقاً وإنّ الرجل ليكذب حتَّى يُكتب عند الله كذّاباً» وكلّ هذا من تصرّف الله تعالى بالتكوين والخلق وهو تصرّف القدر. وله اتِّصال بناموس التسلسل في تطوّر أحوال البشر في تصرّفات بعقولهم وعوائدهم، وهي سلسلة بعيدة المدى اقتضتها حكمة الله تعالى في تدبير نظام هذا العالم، ولا يعلم كنهها إلاّ الله تعالى، وليس هذا الإضلال بالأمر بالضلال فإنّ الله لا يأمر بالفحشاء ولا بتلقينه والحثّ عليه وتسهيله فإنّ ذلك من فعل الشيطان، كما أنّ الله قد حرم من أراد إضلاله من انتشاله واللطف به لأنّ ذلك فضل مَن هو أعلم بأهله. ومفعول {يشأ} محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، كما هو الشائع في مفعول فعل المشيئة الواقع شرطاً.
والصراط هو الطريق البيّن. ومعنى المستقيم أنّه لا اعوجاج فيه، لأنّ السّير في الطريق المستقيم أيسر على السائر وأقرب وصولاً إلى المقصود.
ومعنى (على) الاستعلاء، وهو استعلاء السائر على الطريق. فالكلام تمثيل لحال الذي خلقه الله فمَنّ عليه بعقل يرعوي من غيّه ويُصغي إلى النصيحة فلا يقع في الفساد فاتّبع الدين الحقّ، بحال السائر في طريق واضحة لا يتحيَّر ولا يخطىء القصد، ومستقيمة لا تطوح به في طول السير. وهذا التمثيل أيضاً صالح لتشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّه بها، كما تقدّم في نظيره. وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]. فالدين يشبه الصراط الموصّل بغير عناء، والهدي إليه شبيه الجعل على الصراط.