الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا صُمّٞ وَبُكۡمٞ فِي ٱلظُّلُمَٰتِۗ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضۡلِلۡهُ وَمَن يَشَأۡ يَجۡعَلۡهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (39)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ } : مبتدأٌ وما بعده الخبرُ . ويجوز أن يكون " صمٌّ " خبرَ مبتدأ محذوف ، والجملة خبر الأول ، والتقدير : والذين كذَّبوا بعضُهم صمٌّ وبعضُهم بُكْمٌ ، وقال أبو البقاء : " صمٌّ وبُكْمٌ الخبرُ ، مثل حلو حامض ، والواو لا تمنع من ذلك " . قلت : هذا الذي قاله لا يجوزُ مِنْ وجهين ، أحدهما : أنَّ ذلك إنما يكون إذا كان الخبران في معنى خبر واحد لأنهما في معنى مُزّ ، وهو أَعْسَرُ يَسَرٌ بمعنى أضبط ، وأمَّا هذان الخبران فكلُّ منهما مستقلٌّ بالفائدة . والثاني : أن الواو لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي علي الفارسي وهو وجه ضعيف .

قوله : { فِي الظُّلُمَاتِ } فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكون خبراً ثانياً لقوله : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ } ويكون ذلك عبارةً عن العَمَى ، ويصير نظيرَ الآيةِ الأخرى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] فَعَبَّر عن العمى بلازمه ، والمراد بذلك عَمَى البصيرة . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في الخبر تقديرُه : ضالُّون حال كونهم مستقرين في الظلمات . الثالث : أنه صفةٌ ل " بُكْم " فيتعلَّق أيضاً بمحذوف أي بُكم كائنون في الظلمات . الرابع : أن يكون ظرفاً على حقيقته وهو ظرف ل " صُمُّ " أو ل " بُكْم " قال أبو البقاء : " أو لِما ينوبُ عنهما في الفعل " أي : لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل .

قوله : { مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ } في " مَنْ " وجهان ، أحدهما : أنها مبتدأ وخبرها ما بعدها ، وقد عُرِف غير مرة . ومفعول " يشأ " محذوف أي : مَنْ يشأ الله إضلاله . والثاني : أنه منصوب بفعل مضمر يفسِّره ما بعده من حيث المعنى ، ويقدِّر ذلك الفعل متأخراً عن اسم الشرط لئلا يلزمَ خروجه عن الصدر ، وقد تقدَّم التنبيهُ على ذلك وأن فيه خلافاً ، والتقدير : مَنْ يُشْقِ اللهُ يَشَأْ إضلاله ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايته . فإن قلت : هل يجوز أن تكون " مَنْ " مفعولاً مقدَّماً ل " يشأ " ؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى . فإن قلت : أُقَدِّرُ مضافاً هو المفعول حُذِفَ وأقيمت " مَنْ " مُقامه تقديره : إضلال مَنْ يشاء وهداية من يشاء ، ودلَّ على هذا المضاف جوابُ الشرط . فالجوابُ أنَّ الأخفشَ حكى عن العرب أنَّ اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجزاء ضمير يعود عليه أو على ما أُضيف إليه ، فالضمير في " يُضْلِلْه " و " يِجْعَلُه " إمَّا أن يعود على المضاف المحذوف ويكونَ كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] فالهاء في " يغشاه " تعود على المضاف أي : كذي ظلمات يَغْشاه ، وإمَّا أن يعود على اسم الشرط ، والأول ممتنع ، إذ يصير التقدير : إضلال مَنْ يشأ الله يُضْلِلْه أي : يُضِلُّ الإِضلال ، وهو فاسدٌ .

والثاني : أيضاً ممتنعٌ لخلوِّ الجوابِ من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط . فإن قيل : يجوز أن يكون المعنى : مَنْ يشأ الله بالإِضلال وتكون " مَنْ " مفعولاً مقدماً ؛ لأنَّ " شاء " بمعنى أراد ، و " أراد " يتعدى بالباء قال :

أرادَتْ عَراراً بالهَوانِ ومَنْ يُرِدْ *** عَراراً لعَمْري بالهَوان فقد ظَلَمْ

قيل : لا يلزم من كون " شاء " بمعنى " أراد " أن يتعدَّى تعديته ، ولذلك نجد اللفظ الواحد تختلف تعديتُه باختلافِ متعلَّقِه تقول : دخلت الدار ودخلت في الأمر ، ولا تقول : دخلتُ الأمرَ ، فإذا كان ذلك في اللفظ الواحد فما بالك بلفظين ؟ ولم يُحفظ عن العرب تعديةُ " شاء " بالباء وإن كانت في معنى أراد .