إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا صُمّٞ وَبُكۡمٞ فِي ٱلظُّلُمَٰتِۗ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضۡلِلۡهُ وَمَن يَشَأۡ يَجۡعَلۡهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (39)

وقوله تعالى : { والذين كَذَّبُوا بآياتنا } متعلق بقوله تعالى : { ما فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شيء } والموصول عبارةٌ عن المعهودِين في قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ من يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الآيات } ومحلُه الرفعُ على الابتداء خبرُه ما بعده أي أوردنا في القرآن جميعَ الأمور المهمة وأزَحْنا به العِللَ والأعذارَ والذين كذبوا بآياتنا التي هي منه { صُمٌّ } لا يسمعونها سمعَ تدبرٍ وفهمٍ فلذلك يسمّونها أساطيرَ الأولين ولا يعدّونها من الآيات ويقترحون غيرها { وَبُكْمٌ } لا يقدِرون على أن ينطِقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك بها وقوله تعالى : { في الظلمات } إما متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من المستكنِّ في الخبر كأنه قيل : ضالون كائنين في الظلمات أو صفةً لبكْم أي بُكم كائنون في الظلمات ، والمراد به بيانُ كمالِ عراقتهم في الجهل وسوء الحال فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان بصيراً ربما يَفهم شيئاً بإشارةِ غيرِه وإن لم يفهَمْه بعبارته ، وكذا يُشعِرُ غيرَه بما في ضميره بالإشارة وإن كان معزولاً عن العبارة ، وأما إذا كان مع ذلك أعمى أو كان في الظلمات فينسدّ عليه بابُ الفهم والتفهيم بالكلية ، وقوله تعالى : { مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ } تحقيقٌ للحق وتقريرٌ لما سبقَ من حالهم ببيانِ أنهم من أهل الطبْعِ لا يتأتَّى منهم الإيمانُ أصلاً ، فمَنْ مبتدأ خبرُه ما بعده ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولها مضمونَ الجزاء وانتفاءِ الغرابة في تعلقها به أي من يشأ الله إضلالَه أي أن يخلُق فيه الضلالَ يضلِلْه أي يخلُقه فيه ولكن لا ابتداءً بطريق الجبر من غير أن يكون له دخلٌ ما في ذلك بل عند صَرْفِ اختياره إلى كَسْبه وتحصيلِه وقِسْ عليه قوله تعالى : { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَت قدمُه عليه .