البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا صُمّٞ وَبُكۡمٞ فِي ٱلظُّلُمَٰتِۗ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضۡلِلۡهُ وَمَن يَشَأۡ يَجۡعَلۡهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (39)

{ والذين كذبوا بآياتنا صمّ وبكم في الظلمات } قال النقاش : نزلت في بني عبد الدار ثم انسحبت على سواهم ؛ انتهى .

ومناسبة هذه لما قبلها أنه لما تقدم قوله : { إنما يستجيب الذين يسمعون } أخبر أن المكذبين بالآيات صم لا يسمعون من ينبههم ، فلا يستجيب أحد منهم ولما كان قوله : { وما من دابة } الآية منبهاً على عظيم قدرة الله تعالى ولطيف صنعه وبديع خلقه ، ذكر أن المكذب بآياته هو أصم عن سماع الحق أبكم عن النطق به ، والآيات هنا القرآن أو ما ظهر على يدي الرسول من المعجزات أو الدلائل والحجج ثلاثة أقوال والإخبار عنهم بقوله : { صم وبكم في الظلمات } الظاهر أنه استعارة عن عدم الانتفاع الذهني بهذه الحواس لا أنهم { صم وبكم في الظلمات } حقيقة وجاء قوله : { في الظلمات } كناية عن عمي البصيرة ، فهو ينظر كقوله : { صم بكم عمي } لكن قوله : { في الظلمات } أبلغ من قوله : { عمي } إذ جعلت ظرفاً لهم وجمعت لاختلاف جهات الكفر ، كما قيل في قوله : { وجعل الظلمات والنور } على أحد الأقوال وفي قوله : { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } وقال الجبائي : الإخبار عنهم بأنهم { صم وبكم في الظلمات } حقيقة وذلك يوم القيامة يجعلهم صماً وبكماً في الظلمات يضلهم بذلك عن الجنة ويصيرهم إلى النار ، ويعضد هذا التأويل قوله تعالى : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم } الآية .

وقال الكعبيّ : { صم وبكم } محمول على الشتم والإهانة على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة ؛ انتهى .

{ والظلمات } ظلمات الكفر أو حجب تضرب على القلب فيظلم وتحول بينه وبين نور الإيمان ، أو ظلمات يوم القيامة ومنه قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً أو الشدائد لأن العرب كانت تعبر عن الشدة بالظلمة يقولون يوم مظلمة إذا لقوا فيه شدة ومنه قوله :

بني أسد هل تعلمون بلاءنا *** إذا كان يوم ذو كواكب مظلم

أربعة أقوال : رابعها قاله الليث .

{ من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } مفعول { يشأ } محذوف تقديره من يشأ الله إضلاله { يضلله } ومن يشأ هدايته { يجعله } ولا يجوز في { من } فيهما أن يكون مفعولاً بيشأ للتعاند الحاصل بين المشيئتين ، ( فإن قلت ) : يكون مفعولاً بيشأ على حذف مضاف تقديره إضلال من يشاء الله وهداية من يشاء الله ، فحذف وأقيم من مقامه ودل فعل الجواب على هذا المفعول .

فالجواب : أن ذلك لا يجوز لأن أبا الحسن الأخفش حكى عن العرب أن اسم الشرط غير الظرف والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود على اسم الشرط أو المضاف إليه ، والضمير في { يضلله } إما أن يكون عائداً على إضلال المحذوف أو على من لا جائز أن يعود على إضلال فيكون كقوله { يغشاه موج من فوقه } إذ الهاء تعود على ذي المحذوفة من قوله : أو كظلمات إذ التقدير أو كذي ظلمات لأنه يصير التقدير إضلال { من يشأ الله يضلله } أي يضلل الإضلال وهذا لا يصحّ ولا جائز أن يعود على من الشرطية لأنه إذ ذاك تخلوا الجملة الجزائية من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط وذلك لا يجوز .

( فإن قلت ) : يكون التقدير من يشأ الله بالإضلال فيكون على هذا مفعولاً مقدماً لأن شاء بمعنى أراد ويقال أراده الله بكذا .

قال الشاعر :

أرادت عرار بالهوان ومن يرد *** عرار العمرى بالهوان فقد ظلم

فالجواب : أنه لا يحفظ من كلام العرب تعدية شاء بالباء لا يحفظ شاء الله بكذا ولا يلزم من كون الشيء في معنى الشيء أن يعدى تعديته ، بل قد يختلف تعدية اللفظ الواحد باختلاف متعلقه ألا ترى أنك تقول : دخلت الدار ودخلت في غمار الناس ، ولا يجوز دخلت غمار الناس فإذا كان هذا وارداً في الفعل الواحد فلأن يكون في الفعلين أحرى ، وإذا تقرّر هذا فإعراب من يحتمل وجهين أحدهما وهو الأولى أن يكون مبتدأ جملة الشرط خبره والثاني أن يكون مفعولاً بفعل محذوف متأخر عنه يفسره فعل الشرط من حيث المعنى ، وتكون المسألة من باب الاشتغال التقدير من يشق الله يشأ إضلاله ومن يسعد يشأ هدايته { يجعله على صراط مستقيم } وظاهر الآية يدل على مذهب أهل السنة في أن الله تعالى هو الهاديّ وهو المضل ، وأن ذلك معذوق بمشيئته لا يسأل عما يفعل وقد تأولت المعتزلة هذه الآية كما تأولوا غيرها فقالوا : معنى { يضلله } يخذله ويخبله وضلاله لم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف ، ومعنى { يجعله على صراط مستقيم } يلطف به لأن اللطف يجري عليه وهذا على قول الزمخشري .

وقال غيره : يضلله عن طريق الجنة و { يجعله على صراط مستقيم } هو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة ، قالوا : وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الضلال إلا لمن يستحق العقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين .