في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا صُمّٞ وَبُكۡمٞ فِي ٱلظُّلُمَٰتِۗ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضۡلِلۡهُ وَمَن يَشَأۡ يَجۡعَلۡهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (39)

33

وتختم هذه الجولة - أو هذه الموجة - بتقرير ما وراء الهدى والضلال من مشيئة الله وسنته ، وما يدلان عليه من فطرة الناس في حالات الهدى وحالات الضلال :

( والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات . من يشأ الله يضلله ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) . .

وهو إعادة لتقرير الحقيقة التي مضت في هذه الجولة عن استجابة الذين يسمعون ، وموت الذين لا يستجيبون . ولكن في صورة أخرى ومشهد آخر . . إن الذين كذبوا بآيات الله هذه المبثوثة في صفحات الوجود ، وآياته الأخرى المسجلة في صفحات هذا القرآن ، إنما كذبوا لأن أجهزة الاستقبال فيهم معطلة . . إنهم صم لا يسمعون ، بكلم لا يتكلمون ، غارقون في الظلمات لا يبصرون ! إنهم كذلك لا من ناحية التكوين الجثماني المادي . فإنلهم عيونا وآذانا وأفواها . . ولكن إدراكهم معطل ، فكأنما هذه الحواس لا تستقبل ولا تنقل ! . . وإنه لكذلك فهذه الآيات تحمل في ذاتها فاعليتها وإيقاعها وتأثيرها ، لو أنها استقبلت وتلقاها الإدراك ! وما يعرض عنها معرض إلا وقد فسدت فطرته ، فلم يعد صالحا لحياة الهدى ، ولم يعد أهلا لذلك المستوى الراقي من الحياة .

ووراء ذلك كله مشيئة الله . . المشيئة الطليقة التي قضت أن يكون هذا الخلق المسمى بالإنسان على هذا الاستعداد المزدوج للهدى والضلال ، عن اختيار وحكمة ، لا عن اقتضاء أو إلزام . . وكذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم . بمشيئته تلك ، التي تعين من يجاهد ، وتضل من يعاند . ولا تظلم أحدا من العباد .

إن اتجاه الإنسان إلى طلب الهدى ، أو اتجاهه إلى الضلال ، كلاهما ينشأ من خلقته التي فطره الله عليها بمشيئته . فهذا الاتجاه وذاك مخلوق ابتداء بمشيئة الله . والنتائج التي تترتب على هذا الاتجاه وذاك من الاهتداء والضلال إنما ينشئها الله بمشيئته كذلك . فالمشيئة فاعلة ومطلقة . والحساب والجزاء إنما يقومان على اتجاه الإنسان . الذي يملكه ، وإن كان الاستعداد للاتجاه المزدوج هو في الأصل من مشيئة الله . .

/خ39