اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا صُمّٞ وَبُكۡمٞ فِي ٱلظُّلُمَٰتِۗ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضۡلِلۡهُ وَمَن يَشَأۡ يَجۡعَلۡهُ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (39)

قوله : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } مبتدأ ، وما بعده الخبر .

ويجوز أن يكون " صمُّ " خبر مبتدأ محذوف ، والجملة خَبَرُ الأوَّل ، والتقدير : والذين كذَّبوا بعضهم صُمٌّ ، وبعضهم بُكْمٌ .

وقال أبو البقاء{[13802]} : " صُمٌّ وبُكْمٌ " الخبر مثل : " حُلْوٌ حَامِضٌ " ، والواو لا تمنع من ذلك " .

وهذا الذي قاله لا يجوز من وجهين :

أحدهما : أن ذلك إنما يكون إذا كان الخبرانِ في معنى خبر واحد ، لأنهما في معنى : " مُزّ " ، وهو " أعْسَرُ يَسَرٌ " بمعنى " أضْبَط " ، وأمَّا هذان الخبرانِ فكل منهما مستقلٌّ بالفائدة .

والثاني : أن " الواو " لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي عَلِيٍّ الفارسي وهو وجه ضعيف .

والمراد بالآيات ، قيل : جميع الدَّلائل والحججِ .

وقيل : القرآن ومحمد عليه السلام .

قوله : " في الظلمات " فيه أوجه :

أحدها : أن يكون خبراً ثانياً لقوله : " والذين كَذَّبُوا " ويكون ذلك عبارة عن العَمَى ويصير نظير الآية الأخرى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ }

[ البقرة :18 ] فَعَبَّر عن العَمَى بلازمه ، والمراد بذلك عَمَى البَصِيَرَةِ .

الثاني : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في الخبر ، تقديره : ضالون حَالَ كونهم مُسْتقرِّين في الظلمات .

الثالث : أنه صَفَةٌ ل " بكم " ، فيتعلَّق أيضاً بمحذوف ، أي : بكم كائنون في الظلمات .

الرابع : أن يكون ظَرْفاً على حقيقته ، وهو ظَرْفٌ ل " صم " ، أو ل " بكم " .

قال أبو البقاء{[13803]} : أو لما ينوب عنهما من الفِعْلِ ، أي : لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل .

فصل في بيان نظم الآية

في وجه النَّظْم قولان :

الأول : أنه -تعالى- لما بيَّن من حال الكُفَّار أنهم بلغوا في الكُفْرِ إلى حيث كانت قلوبهم قد صارت مَيِّتَةً عن قَبُولِ الإيمان بقوله : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ } فذكر هذه الآية تقريراً لذلك المعنى{[13804]} .

الثاني : أنه -تعالى- لمَّا ذكر في قوله : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } في كونها دالَّة على كونها تحت تدبير مُدَبِّرٍ قديمٍ ، وتحت تقدير مٌقدِّرٍ حكيم ، وفي أنّ عناية الله مُحيطة بهم ، ورحمته واصِلَةٌ إليهم- قال بعده : والمُكَذِّبُونَ بهذه الدَّلائل والمنكرون لهذه العجائبِ صُمُّ لا يسمعون كلاماً ، بُكْمٌ لا ينطقون بالحق ، خَائِضونَ في ظلمات الكُفْرِ ، غافلون عن تَأمُّلِ هذه الدلائل{[13805]} .

قوله : { مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ } في " مَنْ " وجهان :

أحدهما : أنها مبتدأ ، وخبرها ما بعدها ، وقد عُرِفَ غير مَرَّةٍ .

ومفعول " يشأ " محذوف ، أي : من يشأ الله إضلاله .

والثاني : أنه مَنْصُوبٌ بفعل مُضْمَرٍ يفسِّرُهُ ما بعده من حيث المعنى ، ويقدِّر ذلك الفعل متأخّراً عن اسم الشَّرْطِ لئلا يلزم خروجه عن الصَّدرِ .

وقد تقدَّمَ التَّنْبِيهُ على ذلك ، وأن فيه خلافاً ، والتقدير : من يُشْقِ اللَّهُ يَشَأ إضلاله ، ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايتَهُ .

فإن قيل : هل يجوز أن تكون " من " مفعولاً مُقدَّماً ل " يشاء " ؟

فالجواب : أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى .

فإن قيل : أقدّر مضافاً هو المفعول حُذف وأقيمت " من " مقامه ، تقديره : إضلال من يشاء ، وهداية من يشاء ، ودلَّ على هذا المضاف جوابُ الشرط .

فالجواب أن الأخْفَشَ حكى عن العربِ أنَّ اسم الشَّرْطِ غير الظرف ، والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجَزَاءِ ضَمِيرٌ يعود عليه ، أو على ما أضيف إليه ، فالضَّمير في " يضلله " و " يجعله " : إمّا أن يعود على المُضافِ المحذوف ، ويكون كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور :40 ] .

فالهاء في " يغشاه " تعود على المُضاف ، أي : كَذي ظلمات يَغْشَاهُ .

وإمَّا أن يعود على اسم الشرط [ والأول ممتنع ؛ إذ يصير التقدير : إضلالُ من يشأ الله يضلله ، أي : يضلّ الإضلال ، وهو فاسد .

والثاني أيضاً مُمْتَنِعٌ لخلو الجواب من ضَمِيرٍ يعود على المضاف إلى اسم الشرط ]{[13806]} .

فإن قيل : يجوز أن يكون المعنى : من يشأ الله بالإضلالِ ، وتكون " من " مفعولاً مقدّماً ؛ لأن " شاء " بمعنى " أراد " ، و " أراد " يتعدَّى بالباء .

قال الشاعر : [ الطويل ]

أرَادَتْ عَرَارًا بالهَوَانِ ومَنْ يُرِدْ *** عَرَاراً لَعَمْرِي بالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ{[13807]}

قيل : لا يلزم من كَوْنِ " شاء " بمعنى " أراد " أن يتعدَّى تعديته ، ولذلك نَجِدُ اللفظ الواحدَ تختلف تعديتُهُ باختلاف متعلّقه ، تقول : دخلت الدَّارَ ، ودخلت في الأمْرِ ، ولا تقول : دخلت الأمر ، فإذا كان في اللَّفظِ الواحد فَمَا بَالُكَ بلفظين ؟ ولم يُحْفَظْ عن العَربِ تعديَةُ " شاء " بالباء ، وإن كانت في معنى أراد .

فصل في أنّ الهداية والضلال من الله تعالى

احتج أهْلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أن الهُدَى والضلال ليسا إلاَّ من الله -تعالى- لتصريح الآية بذلك .

وأجاب المعتزلة عن ذلك بوجوه :

الأول : قال الجُبَّائي{[13808]} : معناه أنّه -تعالى- يجعلهم صُمَّاً وبُكماً وعُمْياً يوم القيامة عند الحَشْرِ ، ويكنون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صُمَّا وبُكماً في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجَنَّةِ ، وعن طريقها ، ويصيرهم إلى النار ، وأكَّد القاضي هذا بأنه -تعالى- بيَّن في باقي الآيات أنه يحشرهم على وجوهم عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ .

الثاني : قال الجُبائي{[13809]} أيضاً : ويحتمل أنهم يكونون كذلك في الدنيا ، فيكون توسّعاً من حيث أنهم جعلوا بتكذيبهم بآيات الله في الظلمات لا يهتدون إلى منافعِ الدنيا فَشَبَّهَهُمْ من هذا الوجه بهم وأجرى بهم وأجرى عليهم مثل صِفَاتِهِمْ على سبيل التَّشْبِيهِ .

الثالث : قال الكَعْبِيُّ{[13810]} : قوله " صُمُّ وبُكْمٌ " قائم على الشَّتْمِ والإهانة ، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة .

أمَّا قوله : { مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ } فقال الكعبي{[13811]} : ليس هذا على سبيل المجاز لأنه -تعالى- وإن أجْمَلَ القول فيه هَا هُنَا فَقَدْ فَسَّرَهُ في سائر الآيات ، وهو قوله : { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ }[ إبراهيم :27 ] وقوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ } [ البقرة :26 ] . وقوله : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد :17 ] ، وقوله تعالى :{ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } [ المائدة :16 ] . وقوله : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } [ إبراهيم :27 ] وقوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت :69 ] .

فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال ، وإن كانت مُجْمَلَةً في هذه الآية ، إلاَّ أنها [ مخصصة ]{[13812]} مفصلة في سائر الآيات ، فيحمل هذا المُجْمَلُ على تلك المُفصَّلاتِ . ثم إن المعتزلة ذكروا في تأويل هذه الآية وُجُوهاً :

أحدهما : قوله : { مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ } [ الآية :39 ] مَحْمَوُلٌ على مَنْعِ الألْطَافِ ، فصاروا عندها كالصُّمِّ والبُكم .

وثانيها : يضلله يوم القيامة عن طريق{[13813]} الجنة ، وعن وجدانِ الثوابِ ؛ لأنه ثبت بالدليل أنه -تعالى- لا يشاء هذا الإضلال إلاَّ لمن يستحقه عقوبة ، كما لم يشأ الهُدَى إلاَّ للمؤمنين .

واعلم أن هذه الوجوه التي تكَلَّفَهَا المعتزلة إنما تَحْسُنُ لَوْ ثَبَتَ في العقل أنه لا يمكن إجْرَاءُ هذا الكلام على ظاهرة ، وقد دللنا على أنَّ هذا الفعل لا يحصل إلاَّ عند حُصُول الداعي ، وبيَّنَّا أنِّ خالق ذلك الداعي هو الله تعالى ، وبيَّنَّا أن عند حصوله يجبُ الفعلُ في هذه المقدِّمَاتِ الثلاث ، فوجب القَطْعُ بأن الكفر والإيمان من الله تعالى ، وبتخليقه وتقديره وتكوينه ، وقد تقدَّم إبطالُ هذه الوجوه عند قوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ } [ البقرة :7 ] وغيرها من الآيات ، فلا حاجةَ إلى الإعادةِ .


[13802]:ينظر: الإملاء 1/241.
[13803]:ينظر: الإملاء 1/241.
[13804]:ينظر: الرازي 12/181.
[13805]:ينظر: المصدر السابق.
[13806]:سقط في أ.
[13807]:تقدم.
[13808]:ينظر: الرازي 12/182.
[13809]:ينظر: الرازي 12/182.
[13810]:ينظر: المصدر السابق.
[13811]:ينظر: المصدر السابق.
[13812]:سقط في أ.
[13813]:في أ: دخول.