قوله تعالى : { هؤلاء قومنا } ، يعني : أهل بلده ، { اتخذوا من دونه } أي : من دون الله { آلهة } يعني : الأصنام يعبدونها { لولا } ، أي :هلا ، { يأتون عليهم } أي : على عبادتهم{ بسلطان بين } بحجة واضحة تبين وتوضح أن الأصنام لا تستحق العبادة من دون الله ، { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } ، وزعم أن له شريكاً وولداً .
{ هؤلاء } مبتدأ . { قومُنا } عطف بيان . { اتخذوا من آلهة } خبره ، وهو إخبار في معنى إنكار . { لولا يأتون } هلا يأتون . { عليهم } على عبادتهم . { بسلطان بيّنٍ } ببرهان ظاهر فإن الدين لا يؤخذ إلا به ، وفيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود وأن التقليد فيه غير جائز . { فمن أظلم ممّن افترى على الله كذبا } بنسبة الشريك إليه .
استئناف بياني لما اقتضته جملة { لقد قلنا إذا شططاً } [ الكهف : 14 ] إذ يثور في نفس السامع أن يتساءل عمن يقول هذا الشطط إن كان في السامعين من لا يعلم ذلك أو بتنزيل غير السائل منزلة السائل .
وهذه الجملة من بقية كلام الفتية كما اقتضاه ضمير قوله : { دونه } العائد إلى { ربنا } [ الكهف : 14 ] .
والإشارة إلى قومهم ب { هؤلاء } لقصد تمييزهم بما سيخبر به عنهم . وفي هذه الإشارة تعريض بالتعجب من حالهم وتفضيح صنعهم ، وهو من لوازم قصد التمييز .
وجملة { اتخذوا } خبر عن اسم الإشارة ، وهو خبر مستعمل في الإنكار عليهم دون الإخبار إذ اتخاذهم آلهة من دون الله معلوم بين المتخاطبين ، فليس الإخبار به بمفيد فائدة الخبر .
ومعنى { من دونه } من غيره ، و ( من ) ابتدائية ، أي آلهة ناشئة من غير الله ، وكان قومهم يومئذٍ يعبدون الأصنام على عقيدة الروم ولا يؤمنون بالله .
وجملة { لولا يأتون عليهم بسلطان بين } مؤكدة للجملة التي قبلها باعتبار أنها مستعملة في الإنكار ، لأن مضمون هذه الجملة يقوي الإنكار عليهم .
و ( لولا ) حرف تحْضيض . حقيقتهُ : الحثّ على تحصيل مدخولها . ولما كان الإتيان بسلطان على ثبوت الإلهية للأصنام التي اتخذوها آلهة متعذراً بقرينة أنهم أنكروه عليهم انصرف التحضيض إلى التبكيت والتغليط ، أي اتخذوا آلهة من دون الله لا برهان على إلهيتهم .
ومعنى { عليهم } على آلهتهم ، بقرينة قوله : { اتخذوا من دونه آلهة } .
والبين : الواضح الدلالة . ومعنى الكلام : إذ لم يأتوا بسلطان على ذلك فقد أقاموا اعتقادهم على الكذب والخطأ ، ولذلك فرع عليه جملة { فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً } .
و ( مَن ) استفهامية ، وهو إنكار ، أي لا أظلمُ ممن افترى . والمعنى : أنه أظلم من غيره . وليس المراد المساواة بينه وبين غيره ، كما تقدم في قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } [ البقرة : 114 ] .
والمعنى : أن هؤلاء افتروا على الله كذباً ، وذلك أنهم أشركوا معه غيره في الإلهية فقد كذبوا عليه في ذلك إذ أثبتوا له صفة مخالفة للواقع .
وافتراء الكذب تقدم في قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة المائدة ( 103 ) .
ثم إن كان الكلام من مبدئه خطاباً لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم : { هؤلاء قومنا } على ظاهرها ، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة ؛ وإن كان الكلام من مبدئه دائراً بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى : { فإن يكفر بها هؤلاء } [ الأنعام : 89 ] أي مشركو مكة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة}، يعبدونها،
{لولا}، يعني: هلا، {يأتون عليهم بسلطان بيّن}، يعني: على الآلهة بحجة بينة بأنها آلهة.
{فمن}، يعني: فلا أحد، {أظلم ممن افترى على الله كذبا}، بأن معه آلهة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره مخبرا عن قيل الفتية من أصحاب الكهف: هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها من دونه "لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهمْ بسُلْطانٍ بَيّنٍ "يقول: هلا يأتون على عبادتهم إياها بحجة بينة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بما ظهر عما حذف، وذلك في قوله: "لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهمْ بسُلْطانٍ بَيّنٍ" فالهاء والميم في عليهم من ذكر الآلِهة، والآلهة لا يؤتى عليها بسلطان، ولا يُسأل السلطان عليها، وإنما يسأل عابدوها السلطان على عبادتهموها، فمعلوم إذ كان الأمر كذلك، أن معنى الكلام: لولا يأتون على عبادتهموها، واتخاذهموها آلهة من دون الله بسلطان بين...
وعنى بقوله عزّ ذكره: "فَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا": ومن أشدّ اعتداء وإشراكا بالله، ممن اختلق فتخرّص على الله كذبا، وأشرك مع الله في سلطانه شريكا يعبده دونه، ويتخذه إلها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم حرف هلا يستعمل في الماضي، ويستعمل في المستقبل. فإن كان المضي (فهو) على الإنكار، أي لم يكن، وإن كان على المستقبل فهو على السؤال، أي ائتوا بحجة بينة أي بأنها آلهة كما أتوا هم بأن الله هو الإله الحق، وأنه خالق السماوات والأرض، ورب ما فيهما.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... وفى قصة أصحاب الكهف دلالة على أنه لا يجوز المقام في دار الكفر إذا كان لا يمكن المقام فيه إلا بإظهار كلمة الكفر، وأنه يجب الهجرة إلى دار الإسلام أو بحيث لا يحتاجون إلى التلفظ بكلمة الكفر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اتخذوا}... إخبارٌ في معنى إنكارٍ...
{بسلطان بَيّنٍ} وهو تبكيت؛ لأنّ الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{هؤلاء قومنا} مقالةٌ تصلح أن تكون.. من قول بعضهم لبعض عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه.
{لولا يأتون} تحضيض بمعنى التعجيز، لأنه تحضيض على ما لا يمكن...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم شرعوا يستدلون على كونه شططاً بأنه لا دليل عليه، ويجوز أن يكونوا لما قالوا ذلك عرض لهم الشيطان بشبهة التقليد فقالوا مجيبين عنها: {هؤلاء} وأن يكونوا قالوا ذلك للملك إنقاذاً له من شرك الجهل، وبين المشار إليهم بقولهم: {قومنا} أي وإن كانوا أسن منا وأقوى وأجل في الدنيا {اتخذوا} أي مخالفين مع منهاج العقل داعي الفطرة الأولى {من دونه ءالهة} أشركوهم معه لشبهة واهية استغواهم بها الشيطان؛ ثم استأنفوا على طريق التخصيص ما ينبه على أنهم من حين عبادتهم إلى الآن لم يأتوا على ذلك بدليل، فقالوا منبهين على فساد التقليد في أصول الدين وأنه لا مقنع فيه بدون القطع: {لولا} أي هلا {يأتون} الآن.
ولما كانوا بعبادتهم لهم قد أحلوهم محل العلماء، قال تعالى: {عليهم} أي على عبادتهم إياهم، وحققوا ما أرادوا من الاستعلاء بقولهم: {بسلطان} أي دليل قاهر {بين} مثل ما نأتي نحن على تفرد معبودنا بالأدلة الظاهرة، والبراهين الباهرة، فإن مثل هذا الأمر لا يقنع فيه بدون ذلك، وقد جمعنا الأدلة كلها في الاستدلال على تفرد الله باستحقاقه للعبادة بأنه تفرد بخلق الوجود، فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين لافتعالهم الكذب عن ملك الملوك ومالك الملك، فلذلك قالوا: {فمن أظلم ممن افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعظم {كذباً} فالآية دالة على فساد التقليد في الوحدانية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطان بين؟)... (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟)... وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحا صريحا حاسما، لا تردد فيه ولا تلعثم.. إنهم فتية، أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم. أشداء في استنكار ما عليه قومهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {لولا يأتون عليهم بسلطان بين} مؤكدة للجملة التي قبلها باعتبار أنها مستعملة في الإنكار، لأن مضمون هذه الجملة يقوي الإنكار عليهم. إن كان الكلام من مبدئه خطاباً لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم: {هؤلاء قومنا} على ظاهرها، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة، وإن كان الكلام من مبدئه دائراً بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء} [الأنعام: 89] أي مشركو مكة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً} نتيجةَ ما توهّموه من خلال أجواء القوة الظاهرة لبعض الأشخاص، أمام الضعف الذاتي لأنفسهم، ما أدّى إلى أن يتحرك الوهم لتضخيم الصورة، بالمستوى الذي يمنحونها الكثير من الخيال والمزيد من الأسرار، ثم يعبدونها، وهم بذلك يعبدون خيالاتهم وأوهامهم. وهكذا فإنهم يُسْبِغون صفات الألوهة على أحجارٍ معينة، يتفنّنون في تلوينها وتحسينها وإتقانها وإبداعها في الصورة، ثم يتصورون لها عمقاً في السرّ، أو معنىً في القوّة...
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} لأنه يَظلم الحقيقة الإيمانية التي تُمَثِّل خلاصَ الناس كلِّهم في جميع قضايا المصير في الدنيا والآخرة، ويَظلم الله في حقه في العبودية له، بالاستسلام له في كل شيء، والسير مع تعاليمه في خط الصدق الذي لا يهتز ولا ينحرف عن الحق...