{ وقال الذين كفروا } أى قال بعضهم لبعض . { هل ندلكم على رجل } يعنون محمدا عليه الصلاة والسلام . { ينبئكم } يحدثكم بأعجب الأعاجيب . { إذا مزقتم كل ممزق إنكم في خلق جديد } إنكم تنشؤون خلقا جديدا بعد أن تمزق أجسادكم كل تمزيق وتفريق بحيث تصير ترابا ، وتقديم الظرف للدلالة على البعد والمبالغة فيه ، وعامله محذوف دل عليه ما بعده فإن ما قبله لم يقارنه وما بعده مضاف إليه ، أو محجوب بينه وبينه بأن و { ممزق } يحتمل أن يكون مكانا بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم السيول كل مذهب وطرحتم كل مطرح وجديد بمعنى فاعل من جد وكحديد من حد ، وقيل بمعنى مفعول من جد النساج الثوب إذا قطعه .
انتقال إلى قولة أخرى من شناعة أهل الشرك معطوفة على { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } [ سبأ : 3 ] . وهذا القول قائم مقام الاستدلال على القول الأول لأن قولهم { لا تأتينا الساعة } دعوى وقولهم : { هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } مستنَد تلك الدعوى ، ولذلك حكي بمثل الأسلوب الذي حكيت به الدعوى في المسند والمسند إليه .
وأدمجوا في الاستدلال التعجيب من الذي يأتي بنقيض دليلهم ، ثم إرداف ذلك التعجيب بالطعن في المتعجَّب به .
والمخاطب بقولهم : { هل ندلكم } غير مذكور لأن المقصود في الآية الاعتبار بشناعة القول ، ولا غرض يتعلق بالمقول لهم . فيجوز أن يكون قولهم هذا تقاولاً بينهم ، أو يقوله بعضهم لبعض ، أو يقوله كبراؤهم لعامتهم ودهمائهم . ويجوز أن يكون قول كفار مكة للواردين عليهم في الموسم . وهذا الذي يؤذن به فعل { ندلكم } من أنه خطاب لمن لم يبلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم .
والاستفهام مستعمل في العرض مثل قوله تعالى : { فقل هل لك إلى أن تزكى } [ النازعات : 18 ] وهو عرض مكنّى به عن التعجيب ، أي هل ندلكم على أعجوبة من رجل ينبئكم بهذا النبأ المحال .
والمعنى : تسمعون منه ما سمعناه منه فتعرفوا عذرنا في مناصبته العداء . وقد كان المشركون هَيأوا ما يكون جواباً للذين يردون عليهم في الموسم من قبائل العرب يتساءلون عن خبر هذا الذي ظهر فيهم يدعي أنه رسول من الله إلى الناس ، وعن الوحي الذي يُبلغه عن الله كما ورد في خبر الوليد بن المغيرة إذ قال لقريش : إنه قد حضر هذا الموسمُ وأن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأَجْمِعوا فيه رأيا واحداً ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكُم بعضاً ويردّ قولُكم بعضه بعضاً ، فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقُل وأقم لنا رأياً نقول به . قال : بل أنتم قولوا أسمعْ ، قالوا : نقول كاهن ؟ قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأيْنا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه . قالوا : فنقول مجنون ؟ قال : ما هو بمجنون لقد رأينا الجُنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخلجه ولا وسوسته ، قالوا : فنقول شاعر ؟ قال : لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر ، فقالوا : فنقول ساحر ؟ قال : ما هو بنفثه ولا عَقده ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : إن أقرب القول فيه أن تقولوا : ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته .
فلعل المشركين كانوا يستقبلون الواردين على مكة بهاته المقالة { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } طمعاً منهم بأنها تصرف الناس عن النظر في الدعوة تلبساً باستحالة هذا الخَلْق الجديد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال الذين كفروا بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، متعجبين من وعده إياهم البعث بعد الممات بعضهم لبعض:"هَلْ نَدُلّكُمْ" أيها الناس "على رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إذَا مُزّقْتُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إنّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ "يقول: يخبركم أنكم بعد تقطعكم في الأرض بلاء، وبعد مصيركم في التراب رفاتا، عائدون كهيئتكم قبل الممات خلقا جديدا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق}... ويخرّج ذلك على أحد وجهين: إما على استبعاد ذلك في أوهامهم وعقولهم، أي لا يكون ذلك، وإما على التعجّب والاستهزاء أن كيف يكون ذلك؟ وأنه لا يكون، فقالوا عند ذلك كما أخبر عنهم.
وجه الترتيب: هو أن الله تعالى لما بين أنهم أنكروا الساعة ورد عليهم بقوله: {قل بلى وربي لتأتينكم} وبين ما يكون بعد إتيانها من جزاء المؤمن على عمله الصالح وجزاء الساعي في تكذيب الآيات بالتعذيب على السيئات، بين حال المؤمن والكافر بعد قوله: {قل بلى وربى لتأتينكم} فقال المؤمن: هو الذي يقول الذي أنزل إليك الحق وهو يهدي، وقال الكافر هو الذي يقول هو باطل، ومن غاية اعتقادهم وعنادهم في إبطال ذلك قالوا على سبيل التعجب: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} وهذا كقول القائل في الاستبعاد، جاء رجل يقول: إن الشمس تطلع من المغرب إلى غير ذلك من المحالات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما عجب سبحانه من الذين كفروا في قولهم {لا تأتينا الساعة} المتضمن لتكذيبهم، وختم بتصديق الذين أوتوا العلم مشيراً إلى أن سبب تكذيب الكفرة الجهل الذي سببه الكبر، عجب منهم تعجيباً آخر أشد من الأول لتصريحهم بالتكذيب على وجه عجيب فقال: {وقال الذين كفروا} أي الذين تحققوا أمره صلى الله عليه وسلم وأجمعوا خلافه وعتوا على العناد، لمن يرد عليهم ممن لا يعرف حقيقة حاله معجبين ومنفرين: {هل ندلكم} أي أيها المعتقدون أن لا حشر. ولما أخرجوا الكلام مخرج الغرائب المضحكة لم يذكروا اسمه مع أنه أشهر الأسماء، بل قالوا: {على رجل} أي ليس هو صبياً و لا امرأة حتى تعذروه {ينبئكم} أي يخبركم متى شئتم إخباراً لا أعظم منه بما حواه من العجب الخارج عما نعقله مجدداً لذلك متى شاء المستخبر له.
ولما كان القصد ذكر ما يدل عندهم على استبعاد البعث، قدموا المعمول فقالوا: {إذا} أي إنكم إذا {مزقتم} أي قطعتم وفرقتم بعد موتكم من كل من شأنه أن يمزق من التراب والرياح وطول الزمان ونحو ذلك تمزيقاً عظيماً، بحيث صرتم تراباً، وذلك معنى {كل ممزق} أي كل تمزيق، فلم يبق شيء من أجسادكم مع شيء، بل صار الكل بحيث لا يميز بين ترابه وتراب الأرض، وذهبت به السيول كل مذهب، فصار مع اختلاطه بتراب الأرض والتباسه متباعداً بعضه عن بعض، وكسر معمول "ينبئكم "لأجل اللام فقال: {إنكم لفي} أي لتقومون كما كنتم قبل الموت قياماً لا شك فيه، والإخبار به مستحق لغاية التأكيد {خلق جديد} وهذا عامل إذا الظرفية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال إلى قولة أخرى من شناعة أهل الشرك معطوفة على {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} [سبأ: 3]. وهذا القول قائم مقام الاستدلال على القول الأول لأن قولهم {لا تأتينا الساعة} دعوى وقولهم: {هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} مستنَد تلك الدعوى، ولذلك حكي بمثل الأسلوب الذي حكيت به الدعوى في المسند والمسند إليه.
وأدمجوا في الاستدلال التعجيب من الذي يأتي بنقيض دليلهم، ثم إرداف ذلك التعجيب بالطعن في المتعجَّب به.
والمخاطب بقولهم: {هل ندلكم} غير مذكور لأن المقصود في الآية الاعتبار بشناعة القول، ولا غرض يتعلق بالمقول لهم. فيجوز أن يكون قولهم هذا تقاولاً بينهم، أو يقوله بعضهم لبعض، أو يقوله كبراؤهم لعامتهم ودهمائهم. ويجوز أن يكون قول كفار مكة للواردين عليهم في الموسم. وهذا الذي يؤذن به فعل {ندلكم} من أنه خطاب لمن لم يبلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام مستعمل في العرض مثل قوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى} [النازعات: 18] وهو عرض مكنّى به عن التعجيب، أي هل ندلكم على أعجوبة من رجل ينبئكم بهذا النبأ المحال.
والمعنى: تسمعون منه ما سمعناه منه فتعرفوا عذرنا في مناصبته العداء. وقد كان المشركون هَيأوا ما يكون جواباً للذين يردون عليهم في الموسم من قبائل العرب يتساءلون عن خبر هذا الذي ظهر فيهم يدعي أنه رسول من الله إلى الناس، وعن الوحي الذي يُبلغه عن الله كما ورد في خبر الوليد بن المغيرة إذ قال لقريش: إنه قد حضر هذا الموسمُ وأن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأَجْمِعوا فيه رأيا واحداً ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكُم بعضاً ويردّ قولُكم بعضه بعضاً، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقُل وأقم لنا رأياً نقول به. قال: بل أنتم قولوا أسمعْ، قالوا: نقول كاهن؟ قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأيْنا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. قالوا: فنقول مجنون؟ قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجُنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخلجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر؟ قال: لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر، فقالوا: فنقول ساحر؟ قال: ما هو بنفثه ولا عَقده، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: إن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته.
فلعل المشركين كانوا يستقبلون الواردين على مكة بهاته المقالة {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} طمعاً منهم بأنها تصرف الناس عن النظر في الدعوة تلبساً باستحالة هذا الخَلْق الجديد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يبدو أنّ إصرار هؤلاء الكفّار على إنكار مسألة المعاد يعتمد على أمرين:
الأوّل: توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) وهو «المعاد الجسماني»، أمر يسهل الإشكال عليه والطعن فيه، وأنّ بإمكانهم تنفير الناس منه فينكرونه بسهولة.
الثّاني: أنّ الاعتقاد بالمعاد، أو حتّى القبول باحتماله على كلّ حال إنّما يفرض على الإنسان مسؤوليات وتعهّدات، ويضعه وجهاً لوجه أمام الحقّ، وهذا ما اعتبره رؤوس الكفر خطراً حقيقيّاً، لذا فقد أصرّوا على إلغاء فكرة المعاد والجزاء الأخروي على الأعمال من أذهان الناس، ولكن فاتهم أنّنا في بدء الخليقة لم نكن إلاّ أجزاء مبعثرة، فكلّ قطرة ماء في أبداننا إنّما كانت قطرة في زاوية من بحر أو ينبوع ماء، وكلّ ذرّة من مواد أجسامنا، كانت في جانب من جوانب هذه الأرض المترامية، وسيجمعها الله تبارك وتعالى في النهاية أيضاً كما جمعها في البدء، وهو على كلّ شيء قدير.