قوله تعالى : { إلا من استرق السمع } ، لكم من استراق السمع ، { فأتبعه شهاب مبين } ، والشهاب : الشعلة من النار . وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا ، ويسترقون السمع من الملائكة ، فيرمون بالكواكب فلا تخطئ أبدا ، فمنهم من تقتله ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء الله ، ومنهم من تخبله فيصير غولا يضل الناس في البوادي .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض - ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع أحدهم الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبه فقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن أبي مريم ، حدثنا الليث ، حدثنا ابن جعفر ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الملائكة تنزل في العنان ، وهو السحاب ، فتذكر الأمر الذي قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحي إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " .
وقال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق : إن أول من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف وإنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج ، وكان أهدى العرب ، فقالوا له : ألم تر ما حدث في السماء من القذف بالنجوم ؟ قال : بلى ، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهي - طي الدنيا وهلاك الخلق الذي فيها ، وإن كانت نجوما غيرها وهي الله ثابتة على حالها فهذا الأمر أراده الله تعالى بهذا الخلق . قال معمر قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية ؟ قال : نعم ، قلت : أفرأيت قوله تعالى : { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } الآية . [ الجن -6 ] ؟ قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن قتيبة : إن الرجم كان قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - ولكن لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه . وقيل : إن النجم ينقض فيرمي الشياطين ثم يعود إلى مكانه ، والله أعلم .
{ إلا من استرق السمع } بدل من كل شيطان واستراق السمع اختلاس سرا ، شبه به خطفتهم اليسيرة من أقطار السماوات لما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات ، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من كلها بالشهب . ولا يقدح فيه تكونها قبل المولد لجواز أن يكون لها أسباب أخر . وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن من استرق السمع . { فأتبعه } فتبعه ولحقه . { شهاب مبين } ظاهر للمبصرين ، والشهاب شعلة نار ساطعة ، وقد يطلق للكوكب والسنان لما فيهما من البريق .
واستراق السمع : سرقتهُ . صيغ وزن الافتعال للتكلف . ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه .
و« أتبعه » بمعنى تَبعه . والهمزة زائدة مثل همزة أبان بمعنى بان . وتقدم في قوله تعالى : { فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } في سورة الأعراف ( 175 ) .
وفيه تعليم لهم بأن الشهب التي يشاهدونها متساقطةً في السماء هي رجوم للشياطين المسترِقة طرداً لها عن استراق السمع كاملاً ، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا سببه .
والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدمَ اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه ؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فساداً في الأرض . وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان ، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتاً فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمعَ وتمزيق تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح .
ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها . وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تَلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله : { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } [ سورة الشعراء : 223 ] .
ومقتضى تكوين الشهب للرجم أن هذا الاستراق قد مُنع عن الشياطين .
وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاماً لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة ، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هُريرة رضي الله عنهم من استراق الجن السمع وصفاً للكهانة السابقة . ويكون قوله : { ليسوا بشيء } وصفاً لآخر أمرهم .
وقد ثبت بالكتاب والسنّة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله : { والشياطين كل بناء وغواص } [ سورة ص : 37 ] الآية . والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر ، ويخص باسم الشياطين نوع دأبه الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة .
وظواهر الأخبار الصحيحة من الكتاب والسنة تدل على أن هذه المخلوقات أصناف ، وأنها سابحة في الأجواء وفي طبقات مما وراء الهواء وتتصل بالأرض ، وأن منها أصنافاً لها اتصَال بالنفوس البشرية دون الأجسام وهو الوسواس ولا يخلو منه البشر .
وبعضُ ظواهر الأخبار من السنة تقتضي أن صنفاً له اتصال بنفوس ذات استعداد خاص لاستفادة معرفة الواقعات قبل وقوعها أو الواقعات التي يبعد في مجاري العادات بلوغ وقوعها ، فتسبق بعضُ النفوس بمعرفتها قبل بلوغها المعتاد .
وهذه النفوس هي نفوس الكهان وأهل الشعوذة ، وهذا الصنف من المخلوقات من الجن أوالشياطين هو المسمى بمسترق السمع وهو المستثنى بقوله تعالى : { إلا من استرق السمع } . فهذا الصنف إذا اتصل بتلك النفوس المستعدة للاختلاط به حجز بعض قواها العقلية عن بعض فأكسب البعض المحجوز عنه ازدياد تأثير في وظائفه بما يرتد عليه من جرّاء تفرغ القوة الذهنية من الاشتغال بمزاحمه إلى التوجه إليه وحده ، فتكسبه قدرة على تجاوز الحد المعتاد لأمثاله ، فيخترق الحدود المتعارفة لأمثاله اختراقاً ما ، فربما خلصت إليه تموجات هي أوساط بين تموجات كرة الهواء وتموجات الطبقات العليا المجاورة لها ، مما وراء الكرة الهوائية .
ولنفرض أن هذه الطبقة هي المسماة بالسماء الدنيا وأن هذه التموجات هي تموجات الأثير فإنها تحفظ الأصوات مثلاً .
ثم هذه التموجات التي تخلُص إلى عقول أهل هذه النفوس المستعدة لها تخلص إليها مقطّعة مُجملة فيستعين أصحاب تلك النّفوس على تأليفها وتأويلها بما في طباعهم من ذكاء وزكانة ، ويخبرون بحاصل ما استخلصوه من بين ما تلقفوه وما ألّفوه وما أولوه . وهم في مصادفة بعض الصدق متفاوتون على مقدار تفاوتهم في حدة الذكاء وصفاء الفهم والمقارنة بين الأشياء ، وعلى مقدار دُربتهم ورسوخهم في معالجة مهنتهم وتقادم عهدهم فيها . فهؤلاء هم الكهان ، وكانوا كثيرين بين قبائل العرب . وتختلف سمعتهم بين أقوامهم بمقدار مصادفتهم لما في عقول أقوامهم . ولا شك أن لسذاجة عقول القوم أثراً ما ، وكان أقوامهم يعُدون المعمّرين منهم أقرب إلى الإصابة فيما ينبئون به ، وهم بفرط فطنتهم واستغفالهم البله من مريديهم لا يصدرون إلاّ كلاماً مجملاً موجهاً قابلاً للتأويل بعدة احتمالات ، بحيث لا يؤخذون بالتكذيب الصريح ، فيكلون تأويل كلماتهم إلى ما يحدث للنّاس في مثل الأغراض الصادرة فيها تلك الكلماتُ ، وكلامهم خلو من الإرشاد والحقائق الصالحة .
وهم بحيلتهم واطلاعهم على ميادين النفوس ومؤثراتها التزموا أن يصوغوا كلامهم الذي يخبرون به في صيغة خاصة ملتزماً فيها فقرات قصيرة مختتمة بأسجاع ، لأن الناس يحسبون مزاوجة الفقرة لأختها دليلاً على مصادفتها الحق والواقع ، وأنها أمارة صدق . وكانوا في الغالب يلوذون بالعزلة ، ويكثرون النظر في النجوم ليلاً لتتفرغ أذهانهم . فهذا حال الكهان وهو قائم على أسس الدجل والحيلة والشعوذة مع الاستعانة باستعداد خاص في النفس وقوة تخترق الحواجز المألوفة .
وهذا يفسره ما في كتاب الأدب من « صحيح البخاري » عن عائشة : أن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال : " ليسوا بشيء ( أي لا وجود لما يزعمونه ) . فقيل : يا رسول الله فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حَقاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنيّ فَيقرُّها في أذن وليّه قَرّ الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة " .
وما في تفسير سورة الحجر من « صحيح البخاري » من حديث سفيان عن أبي هُريرة قال نبي الله صلى الله عليه وسلم " إذا قضى الله الأمر في السماء ( أي أمر أو أوحى ) وضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله « فإنهم المأمورون كل في وظيفته » كالسلسلة على صَفوانٍ ينفُذُهم ذلك ( أي يحصل العلم لهم . وتقريبها حركات آلة تلقي الرسائل البرقية تلغراف ) . . . فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر ( أي هي طبقات مفاوتة في العلو ) . ووصف سفيان بيده فحرّفها وفَرّج بين أصابع يده اليمنى نَصَبها بعضَها فوق بعض ( فيسمع المسترق الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخَر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان الكاهن أو الساحر ) ، فربّما أدرك الشّهاب المستمع قبل أن يلقيها ، وربّما ألقاها قبل أن يدركها فيكذب معها مائة كَذبة . فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً للكلمة التي سُمعت من السماء " . أما أخبار الكهان وقصصهم فأكثرها موضوعات وتكاذيب . وأصحها حديث سواد بن قارب في قصة إسلام عُمر رضي الله عنه من « صحيح البخاري » .
وهذه الظواهر كلها لا تقتضي إلا إدراك المسموعات من كلام الملائكة . ولا محالة أنها مقرّبة بالمسموعات ، لأنها دلالة على عزائم النّفوس الملكية وتوجهاتها نحو مسخراتها .
وعبر عنه بالسمع لأنه يؤول إلى الخبر ، فالذي يحصل لمسترق السمع شعور ما تتوجه الملائكة لتسخيره ، والذي يحصل للكاهن كذلك . والمآل أن الكاهن يخبر به فيؤول إلى مسموع .