معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَٱعۡبُدُواْ مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (15)

قوله تعالى : { قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه } أمر توبيخ وتهديد . كقوله : { اعملوا ما شئتم } ( فصلت-40 ) { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم } أزواجهم وخدمهم { يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين } قال ابن عباس : وذلك أن الله جعل لكل إنسان منزلاً في الجنة وأهلاً ، فمن عمل بطاعة الله كان ذلك المنزل والأهل له ، ومن عمل بمعصية الله دخل النار ، وكان ذلك المنزل والأهل لغيره ممن عمل بطاعة الله . وقيل : خسران النفس بدخول النار ، وخسران الأهل بأن يفرق بينه وبين أهله ، وذلك هو الخسران المبين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَٱعۡبُدُواْ مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (15)

{ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } وهذا أيضا تهديد وتَبَرّ منهم ، { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ } أي : إنما الخاسرون كل الخسران { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا ، سواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار ، أو أن الجميع أسكنوا النار ، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور ، { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } أي : هذا هو الخسار البين الظاهر الواضح .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱعۡبُدُواْ مَا شِئۡتُم مِّن دُونِهِۦۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ} (15)

والفاء في قوله : { فَاعْبُدُوا } الخ لتفريع الكلام الذي بعدها على الكلام قبلها فهو تفريع ذكري . والأمر في قوله : { فاعبدوا ما شِئتُم مِن دونِهِ } مستعمل في معنى التخلية ، ويعبر عنه بالتسوية . والمقصود التسوية في ذلك عند المتكلم فتكون التسوية كناية عن قلة الاكتراث بفعل المخاطب ، أي أن ذلك لا يضرني كقوله في سورة [ الكهف : 29 ] : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ، أي اعبدوا أيّ شيء شئتم عبادتَه من دون الله . وجعلت الصلة هنا فعل المشيئة إيماء إلى أن رائدهم في تعيين معبوداتهم هو مجرد المشيئة والهوى بلا دليل .

{ قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين }

أعقب أمر التسوية في شأنهم بشيء من الموعظة حرصاً على إصلاحهم على عادة القرآن ، ولوحظ في إبلاغهم هذه الموعظة مقام ما سبق من التخلية بينهم وبين شأنهم جمعاً بين الإِرشاد وبين التوبيخ ، فجيء بالموعظة على طريق التعريض والحديث عن الغائب والمراد المخاطبون .

وافتتح المقول بحرف التوكيد تنبيهاً على أنه واقع وتعريف { الخَاسِرِينَ } تعريف الجنس ، أي أن الجنس الذين عرفوا بالخسران هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم .

وتعريف المسند والمسند إليه من طريق القصر ، فيفيد هذا التركيب قصر جنس الخاسرين على الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ، وهو قصر مبالغة لكمال جنس الخسران في الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فخسران غيرهم كَلاَ خسران ، ولهذا يقال في لام التعريف في مثل هذا التركيب إنها دالة على معنى الكمال فليسوا يريدون أن معنى الكمال من معاني لام التعريف .

ولما كان الكلام مسوقاً بطريق التعريض بالذين دَار الجدال معهم من قوله : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم إلى قوله : { فاعبدوا ما شئتم من دونه } [ الزمر : 7 15 ] ، عُلم أن المراد بالذين خسروا أنفسهم وأهليهم هم الذين جرى الجدال معهم ، فأفاد معنى : أن الخاسرين أنتم ، إلا أن وجه العدول عن الضمير إلى الموصولية في قوله : { الذين خسروا أنفسهم } لإِدماج وعيدهم بأنهم يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة .

ومعنى خسرانهم أنفسهم : أنهم تسببوا لأنفسهم في العذاب في حين حسبوا أنهم سعوا لها في النعيم والنجاح ، وهو تمثيل لحالهم في إيقاع أنفسهم في العذاب وهم يحسبون أنهم يُلقونها في النعيم ، بحال التاجر الذي عرض ماله للنماء والربح فأصيب بالتلف ، فأطلق على هذه الهيئة تركيب { خَسِرُوا أنفسَهُم } ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ومن خفَّت موازينُه فأُولئِكَ الذين خَسِروا أنفُسَهُم بما كانوا بأياتِنا يظلِمُون } في أوّل سورة [ الأعراف : 9 ] .

وأما خسرانهم أهليهم فهو مِثل خسرانهم أنفسهم وذلك أنهم أغروا أهليهم من أزواجهم وأولادهم بالكفر كما أوقعوا أنفسهم فيه فلم ينتفعوا بأهليهم في الآخرة ولم ينفعوهم : { لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه } [ عبس : 37 ] ، وهذا قريب من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [ التحريم : 6 ] ، فكان خسرانهم خسراناً عظيماً .

فقوله : { ألاَ ذلِكَ هو الخُسرانُ المبينُ } استئناف هو بمنزلة الفذلكة والنتيجة من الكلام السابق لأن وصف { الذين خسروا } بأنهم خسروا أحب ما عندهم وبأنهم الذين انحصر فيهم جنس الخاسرين ، يستخلص منه أن خسارتهم أعظم خسارة وأوضحها للعيان ، ولذلك أوثرت خسارتهم باسم الخسران الذي هو اسم مصدر الخسارة دالٌّ على قوة المصدر والمبالغة فيه .

وأشير إلى العناية والاهتمام بوصف خسارتهم ، بأن افتتح الكلام بحرف التنبيه داخلاً على اسم الإِشارة المفيد تمييز المشار إليه أكمل تمييز ، وبتوسط ضمير الفصل المفيد للقصر وهو قصر ادعائي ، والقول فيه كالقول في الحصر في قوله : { إنَّ الخاسِرينَ الذين خَسِروا أنفسهم وأهليهم } .