معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَالَ ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (24)

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَ ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (24)

قيل : المراد بالخطاب في { اهْبِطُوا } آدم ، وحواء ، وإبليس ، والحية . ومنهم من لم يذكر الحية ، والله أعلم .

والعمدة في العداوة آدم وإبليس ؛ ولهذا قال تعالى في سورة " طه " قال : { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا } [ الآية : 123 ] وحواء تبع لآدم . والحية - إن كان ذكرها صحيحا - فهي تبع لإبليس .

وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات ، والله أعلم بصحتها . ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم ، أو دنياهم ، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله{[11628]} صلى الله عليه وسلم .

وقوله : { وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة ، قد جرى بها القلم ، وأحصاها القدر ، وسطرت في الكتاب الأول . وقال ابن عباس : { مُسْتَقَرٌّ } القبور . وعنه : وجه الأرض وتحتها . رواهما ابن أبي حاتم .


[11628]:في ك: "ورسوله".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (24)

المخاطبة بقوله : { اهبطوا } قال أبو صالح والسدي والطبري وغيرهم : هي لآدم وحواء وإبليس والحية ، وقالت فرقة : هي مخاطبة لآدم وذريته وإبليس وذريته .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لعدمهم في ذلك الوقت ، فإن قيل خاطبهم وأمرهم بشرط الوجود فذلك يبعد في هذه النازلة لأن الأمر بشرط الوجود إنما يصح إذا ترتب على المأمور بعد وجوده وصح معناه عليه كالصلاة والصوم ونحو ذلك ، وأما هنا فإن معنى الهبوط لا يتصور في بنى آدم بعد وجودهم ولا يتعلق بهم من الأمر به شيء ، وأما قوله في آية أخرى { اهبطا } فهي مخاطبة لآدم وإبليس بدليل بيانه العداوة بينهما ، وعدو فرد بمعنى الجمع ، تقول قوم عدو وقوم صديق ، ومنه قول الشاعر :

لعمري لئن كنتم على النأي والغنى*** بكم مثل ما بي إنكم لصديق

وعداوة الحياة معروفة ، وروى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما سالمناهن منذ حاربناهن » ، وقال عبد الله بن عمر : «من تركهن فليس منا » ، وقالت عائشة «من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين » .

قال القاضي أبو محمد : وإنما يعرض في أمرهن حديث الفتى في غزوة الخندق ، وقول النبي عليه السلام : إن جناً بالمدينة قد أسلموا فمن رأى من هذه الحيات شيئاً في بيته فليحرج عليه ثلاثاً فإن رآه بعد ذلك فليقتله فإنما هو كافر .

وقوله تعالى : { مستقر } لفظ عام لزمن الحياة ولزمن الإقامة في القبور ، وبزمن الحياة فسر أبو العالية وقال : هي كقوله { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } وبالإقامة في القبور فسر ابن عباس واللفظ يعمهما فهي كقوله : { ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً } وأما «المتاع » فهو بحسب شخص شخص في زمن الحياة اللهم إلا أن تقدر سكنى القبر متاعاً بوجه ما ، و «المتاع » التمتع والنيل من الفوائد ، و { إلى حين } هو بحسب الجملة قيام الساعة ، وبحسب مفرد بلوغ الأجل والموت ، والحين في كلام العرب الوقت غير معين .

وروي أن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء بجدة ، وتمناها بمنى ، وعرف حقيقة أمرها بعرفة ، ولقيها بجمع وأهبط إبليس بميسان وقيل بالبصرة وقيل بمصر فباض فيها وفرخ ، قال ابن عمر وبسط إبليس فيها عبقريه ، وذكر صالح مولى التؤمة قال في بعض الكتب لما أهبط إبليس قال رب أين مسكني ؟ قال مسكنك الحمام ومجلسك الأسواق ولهوك المزامير وطعامك مالم يذكر عليه اسمي وشرابك المسكر ، ورسلك الشهوات وحبائلك النساء . وأهبطت الحية بأصبهان .

وروي أنها كانت ذات قوائم كالبعير فعوقبت بأن ردت تنساب على بطنها ، وروي أن آدم لما أهبط إلى شقاء الدنيا علم صنعة الحديد ثم علم الحرث فحرث وسقى وحصد وذرا وطحن وعجن وخبز وطبخ وأكل فلم يبلغ إلى ذلك حتى بلغ من الجهد ما شاء الله ، وروي أن حواء قيل لها يا حواء كما دميت الشجرة فأنت تدمين في كل شهر وأنت لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً ، قال فرنت عند ذلك فقيل لها الرنة عليك وعلى ولدك .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذه القصة من الأنباء كثير اختصرتها إذ لا يقتضيها اللفظ .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ} (24)

طوَى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم : لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته ، وإظهار ما يُعقبه اتّباعه من الخسران والفساد ، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة ، وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصودِ منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه ، ولكلّ مقامً مَقال . والخطابُ لآدم وزوجه وإبليسَ . والأمر تكويني ، وبه صار آدم وزوجه وإبليسُ من سكّان الأرض .

وجملة : { بعضكم لبعض عدو } في موضع الحال من ضمير : { اهبطوا } المرفوععِ بالأمر التّكويني فهذه الحال أيضاً تفيد معنى تكوينياً وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض ، وهذا التّكوين تأكّدت به العداوة الجبلية السّابقة فرسخت وزادت ، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس ، فأحد البعضين هو آدم وزوجه ، والبعض الآخر هو إبليس ، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين ، كانت موروثة في نسليهما ، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قِبله ، وقد نشأت هذه العداوة عن حَسد إبليس ، ثمّ سَرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود ، فهي منبثّة في التّفكير والجسد ، ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين .

وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير ، ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته ، وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة ، وكون الإسلام دين الفطرة ، وكون الأصل في النّاس الخير . أمَّا كون الأصل في النّاس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشّذوذ ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي ، لأنّ أحوال الوقوع في ذلك الشّذوذ مبهمة فوجب التّبصّر في جميع الأحوال .

وعطفت جملة : { ولكم في الأرض مستقر } على جملة : { بعضكم لبعض عدو } .

والمستقرّ مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : { لكل نبإ مستقر } [ الأنعام : 67 ] وقوله { فمستقر ومستودع } في سورة الأنعام ( 98 ) .

والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأنّ قوله ومتاع يُصد عن ذلك ولأنّ الشّياطين والجنّ لا يُدفنون في الأرض .

والمتاع والتّمتّع : نيل الملذّات والمرغوبات غير الدّائمة ، ويطلق المتاع على ما يُتمتّع به وينتفع به من الأشياء ، وتقدّم في قوله تعالى : { لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } في سورة النّساء ( 102 ) .

والحِين المدّة من الزّمن ، طويلة أو قصيرة ، وقد نكر هنا ولم يحدّد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد ، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللّذّات ، وفيه يحصل بقاء الذّات غير متفرّقة ولا متلاشية ولا معدومة ، وهذا الزّمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمّى بالأجل ، أي المدّة التي يبلغ إليها الحيّ بحياته في علم الله تعالى وتكوينِه ، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقَر والمتاع ، وهذا إعلام من الله بما قدّره للنّوعين ، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم .