قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } ، مفاتح الغيب خزائنه ، جمع مفتح . واختلفوا في مفاتح الغيب .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما تغيض الأرحام أحد إلا الله تعالى ، ولا يعلم ما في الغد إلا الله عز وجل ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله ) .
وقال الضحاك ومقاتل : مفاتح الغيب خزائن الأرض ، وعلم نزول العذاب . وقال عطاء : ما غاب عنكم من الثواب والعقاب ، وقيل : انقضاء الآجال ، وقيل : أحوال العباد من السعادة ، والشقاوة ، وخواتيم أعمالهم ، وقيل : هي ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون ، وما يكون كيف يكون ، ومالا يكون أن لو كان كيف يكون ؟ وقال ابن مسعود : أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم مفاتيح الغيب .
قوله تعالى : { ويعلم ما في البر والبحر } ، قال مجاهد : البر : المفاوز والقفار ، والبحر : القرى والأمصار ، لا يحدث فيهما بشيء إلا يعلمه ، وقيل : هو البر والبحر المعروف . قوله تعالى : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } ، يريد ساقطة وثابتة ، يعني : يعلم عدد ما يسقط من ورق الشجر وما يبقى عليه ، وقيل : يعلم كم انقلبت ظهراً لبطن إلى أن سقطت على الأرض .
قوله تعالى : { ولا حبة في ظلمات الأرض } ، قيل : هو الحب المعروف في بطون الأرض ، وقيل : هو تحت الصخرة في أسفل الأرضين .
قوله تعالى : { ولا رطب ولا يابس } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الرطب الماء ، واليابس البادية ، وقال عطاء : يريد ما ينبت وما لا ينبت ، وقيل : ولا حي ولا موات ، وقيل : هو عبارة عن كل شيء .
قوله تعالى : { إلا في كتاب مبين } ، يعني أن الكل مكتوب في اللوح المحفوظ .
وقوله : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 34 ]{[10732]} .
وفي حديث عمر [ رضي الله عنه ]{[10733]} أن جبريل حين تَبدَّى له في صورة أعرابي فسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له : " خمس لا يعلمهن إلا الله " ، ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية [ لقمان : 34 ] .
وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : يحيط علمه الكريم{[10734]} بجميع الموجودات ، بَريها وبحريها{[10735]} لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . وما أحسن ما قال الصّرْصَريّ :
فَلا يَخْفَى عليه الذَّر إمَّا *** تَرَاءىَ للنواظر أو تَوَارى
وقوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } أي : ويعلم الحركات حتى من الجمادات ، فما ظنك بالحيوانات ، ولا سيما المكلفون منهم من جنهم وإنسهم ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [ غافر : 19 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الرَّبيع ، حدثنا أبو الأحْوَص ، عن سعيد بن مسروق ، عن حسان النمري ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها ، يكتب ما يسقط{[10736]} منها .
وقوله : { وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } قال محمد بن إسحاق ، عن يحيي بن النضر ، عن أبيه ، سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن ما لو أنهم ظهروا - يعني لكم - لم تروا معهم نورًا ، على كل زاوية من زوايا الأرض{[10737]} خاتم من خواتيم الله ، عَزَّ وجل ، على كل خاتم مَلَك من الملائكة يبعث الله ، عَزَّ وجل ، إليه في كل يوم ملكا من عنده : أن احتفظ بما عندك .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المِسوَر الزهري : حدثنا مالك بن سُعَيْر ، حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحَارث قال : ما في الأرض من شجرة ولا مغْرَز إبرة إلا عليها{[10738]} ملك موكل يأتي الله بعلمها : رطوبتها إذا رطبت ، ويَبَسها إذا يبست .
وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني ، عن مالك بن سعير ، به{[10739]}
ثم قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن أبي حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن رجل عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : خلق الله النون - وهي الدواة - وخلق الألواح ، فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق ، أو رزق حلال أو حرام ، أو عمل بر أو فجور{[10740]} وقرأ هذه الآية : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } إلى آخر الآية .
{ وعنده مفاتح الغيب } خزائنه جمع مفتح بفتح الميم ، وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح ، ويؤيده أنه قرئ " مفاتيح " والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها . { لا يعلمها إلا هو } فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته ، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها . { ويعلم ما في البر والبحر } عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به . { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات . { ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس } معطوفات على ورقة وقوله : { إلا في كتاب مبين } بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله سبحانه وتعالى ، أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعا على الابتداء والخبر { إلا في كتاب مبين } .
{ مفاتح } جمع مفتح{[4941]} وهذه استعارة عبارة عن التوصل إلى الغيوب كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب عن الإنسان ولو كان جمع مفتاح لقال مفاتيح ، ويظهر أيضاً أن { مفاتح } جمع مفتح بفتح الميم أي مواضع تفتح عن المغيبات ، ويؤيد هذا قول السدي وغيره { مفاتح الغيب } خزائن الغيب ، فأما مِفتح بالكسر فهو بمعنى مفتاح ، وقال الزهراوي : ومَفتح أفصح ، وقال ابن عباس وغيره ، الإشارة ب { مفاتح الغيب } هي إلى الخمسة التي في آخر لقمان ، { إن الله عنده علم الساعة } [ لقمان : 34 ] الآية ، لأنها تعم جميع الأشياء التي لم توجد بعد{[4942]} ، ثم قوي البيان بقوله { ويعلم ما في البر والبحر } تنبيهاً على أعظم المخلوقات المجاورة للبشر وقوله { من ورقة } على حقيقته في ورق النباتات ، و { من } زائدة و { إلا يعلمها } يريد على الإطلاق وقبل السقوط ومعه وبعده ، { ولا حبة في ظلمات الأرض } يريد في أشد حال التغيب ، وهذا كله وإن كان داخلاً في قوله { وعنده مفاتح الغيب } عند من رآها في الخمس وغيرها ففيه البيان والإيضاح والتنبيه على مواضع العبر ، أي إذا كانت هذه المحقورات معلومة فغيرها من الجلائل أحرى ، { ولا رطب ولا يابس } عطف على اللفظ وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق «ولا رطبٌ ولا يابسٌ » بالرفع عطفاً على الموضع في { ورقة } ، لأن التقدير وما تسقط ورقة ، و { إلا في كتاب مبين } قيل يعني كتاباً على الحقيقة ، ووجه الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحفظة ، وذلك أنه روي أن الحفظة يرفعون ما كتبوه ويعارضونه بهذا الكتاب المشار إليه ليتحققوا صحة ما كتبوه ، وقيل : المراد بقوله : { إلا في كتاب } علم الله عز وجل المحيط بكل شيء ، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد قولاً : أن «الورقة » يراد بها السقط من أولاد بني آدم ، و «الحبة » يراد بها الذي ليس بسقط ، و «الرطب » يراد به الحي ، و «اليابس » يراد به الميت ، وهذا قول جار على طريقة الرموز ، ولا يصح عن جعفر بن محمد رضي الله عنه ، ولا ينبغي أن يلتفت إليه .