في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{۞وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (59)

56

وبمناسبة علم الله - سبحانه - بالظالمين ؛ واستطرادا في بيان حقيقة الألوهية ؛ يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة . . مجال الغيب المكنون ، وعلم الله المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيء ، ويرسم صورة فريدة لهذا العلم ؛ ويرسل سهاما بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ولا يابس ، إلا في كتاب مبين ) . .

إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط ؛ الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان ، في الأرض ولا في السماء ، في البر ولا في البحر ، في جوف الأرض ولا في طباق الجو ، من حي وميت ويابس ورطب . . .

ولكن أين هذا الذي نقوله نحن - بأسلوبنا البشري المعهود - من ذلك النسق القرآني العجيب ؟ وأين هذا التعبير الإحصائي المجرد ، من ذلك التصوير العميق الموحي ؟

إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول ، وعالم الغيب وعالم الشهود ، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح ، ووراء حدود هذا الكون المشهود . . وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد . وهو يرتاد - أو يحاول أن يرتاد - أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل ؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار . . مفاتحها كلها عند الله ؛ لا يعلمها إلا هو . . ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر ، المكشوفة كلها لعلم الله . ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض ، لا يحصيها عد ، وعين الله على كل ورقة تسقط ، هنا وهنا وهناك . ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله . ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض ، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط . .

إنها جولة تدير الرؤوس ، وتذهل العقول . جولة في آماد من الزمان ، وآفاق من المكان ، وأغوار من المنظور والمحجوب ، والمعلوم والمجهول . . جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف ، يعيا بتصور آمادها الخيال . . وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات . .

ألا إنه الإعجاز !

وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز ، الناطق بمصدر هذا القرآن .

ننظر إليها من ناحية موضوعها ، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر ؛ فليس عليه طابع البشر . . إن الفكر البشري - حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع : موضوع شمول العلم وإحاطته - لا يرتاد هذه الآفاق . . إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر ، في كل أنحاء الأرض ؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض . ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل ! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ؛ ويعبر عنه الخالق !

وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته . . فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ؛ فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به ، ولا أن يلحظوا وجوده ، ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل ! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق !

وما اهتمام الفكر البشري بهذا الإطلاق : ( ولا رطب ولا يابس ) . . إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل . فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك ! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق !

ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ، وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين . وفي سجل محفوظ . . فما شأنهم بهذا ، وما فائدته لهم ؟ وما احتفالهم بتسجيله ؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك ، الذي لا يند عنه شيء في ملكه . . الصغير كالكبير ؛ والحقير كالجليل ؛ والمخبوء كالظاهر ؛ والمجهول كالمعلوم ؛ والبعيد كالقريب . .

إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا ، والحب المخبوءفي أطواء الأرض جميعا ، والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعا . . إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري ؛ وكذلك لا تلحظه العين البشرية ؛ ولا تلم به النظرة البشرية . . إنه المشهد الذي يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده ؛ المشرف على كل شيء ، المحيط بكل شيء . . الحافظ لكل شيء ، الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء . . الصغير كالكبير ، والحقير كالجليل ، والمخبوء كالظاهر ، والمجهول كالمعلوم ، والبعيد كالقريب . .

والذين يزاولون الشعور ويزاولون التعبير من بني البشر يدركون جيدا حدود التصور البشري ، وحدود التعبير البشري أيضا . ويعلمون - من تجربتهم البشرية - أن مثل هذا المشهد ، لا يخطر على القلب البشري ؛ كما أن مثل هذا التعبير لا يتأتى له أيضا . . والذين يمارون في هذا عليهم أن يراجعوا قول البشر كله ، ليروا إن كانوا قد اتجهوا مثل هذا الاتجاه أصلا !

وهذه الآية وأمثالها في القرآن الكريم تكفي وحدها لمعرفة مصدر هذا الكتاب الكريم . .

كذلك ننظر إليها من ناحية الإبداع الفني في التعبير ذاته ، فنرى آفاقا من الجمال والتناسق لا تعرفها أعمال البشر ، على هذا المستوى السامق :

( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . . آماد وآفاق وأغوار في " المجهول " المطلق . في الزمان والمكان ، وفي الماضي والحاضر والمستقبل ، وفي أحداث الحياة وتصورات الوجدان . .

( ويعلم ما في البر والبحر ) . . آماد وآفاق وآغوار في " المنظور " ، على استواء وسعة وشمول . . تناسب في عالم الشهود المشهود تلك الآماد والآفاق والأغوار في عالم الغيب المحجوب .

( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) . . حركة الموت والفناء ؛ وحركة السقوط والانحدار ، من علو إلى سفل ، ومن حياة إلى اندثار .

( ولا حبة في ظلمات الأرض ) . . حركة البزوغ والنماء ، المنبثقة من الغور إلى السطح ، ومن كمون وسكون إلى اندفاع وانطلاق .

( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) . . التعميم الشامل ، الذي يشمل الحياة والموت ، والأزدهار والذبول ؛ في كل حي على الإطلاق . .

فمن ذا الذي يبدع ذلك الاتجاه والانطلاق ؟ ومن ذا الذي يبدع هذا التناسق والجمال ؟ . . من ذا الذي يبدع هذا كله وذلك كله ، في مثل هذا النص القصير . . من ؟ إلا الله !

ثم نقف أمام قوله تعالى :

( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) . .

نقف لنقول كلمة عن ( الغيب ) و( مفاتحه ) واختصاص الله - سبحانه - " بالعلم " بها . . ذلك أن حقيقة الغيب من " مقومات التصور الإسلامي " الأساسية ؛ لأنها من مقومات العقيدة الإسلامية الأساسية ؛ ومن قواعد " الإيمان " الرئيسية . . وذلك أن كلمات( الغيب )و " الغيبية " تلاك في هذه الأيام كثيرا - بعد ظهور المذهب المادي - وتوضع في مقابل " العلم " و " العلمية " . . والقرآن الكريم يقرر أن هناك " غيبا لا يعلم مفاتحه " إلا الله . ويقرر أن ما أوتيه الإنسان من العلم قليل . . وهذا القليل إنما آتاه الله له بقدر ما يعلم هو - سبحانه -من طاقته ومن حاجته . وأن الناس لا يعلمون - فيما وراء العلم الذي أعطاهم الله إياه - إلا ظنا ، وأن الظن لا يغني من الحق شيئا . . كما يقرر - سبحانه - أن الله قد خلق هذا الكون ، وجعل له سننا لا تتبدل ؛ وأنه علم الإنسان أن يبحث عن هذه السنن ويدرك بعضها ؛ ويتعامل معها - في حدود طاقته وحاجته - وأنه سيكشف له من هذه السنن في الأنفس والآفاق ما يزيده يقينا وتأكدا أن الذي جاءه من عند ربه هو الحق . . دون أن يخل هذا الكشف عن سنن الله التي لا تبديل لها ، بحقيقة " الغيب " المجهول للإنسان ، والذي سيظل كذلك مجهولا ، ولا بحقيقة طلاقة مشيئة الله وحدوث كل شيء بقدر غيبي خاص من الله ، ينشى ء هذا الحدث ويبرزه للوجود . . في تناسق تام في العقيدة الإسلامية ، وفي تصور المسلم الناشى ء من حقائق العقيدة . .

فهذه الحقائق بجملتها - على هذا النحو المتعدد الجوانب المتناسق المتكامل - تحتاج منا هنا - في الظلال - إلى كلمة نحاول بقدر الإمكان أن تكون مجملة ، وألا تخرج عن حدود المنهج الذي اتبعناه في الظلال أيضا .

إن الله سبحانه يصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب ؛ فيجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية :

( الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين : الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون . أولئك على هدى من ربهم ، وأولئك هم المفلحون ) . . [ البقرة : 5 - 1 ] .

والإيمان بالله - سبحانه - هو إيمان بالغيب . فذات الله - سبحانه - غيب بالقياس إلى البشر ؛ فإذا آمنوا به فإنما يؤمنون بغيب ، يجدون آثار فعله ، ولا يدركون ذاته ، ولا كيفيات أفعاله .

والإيمان بالآخرة كذلك ، هو إيمان بالغيب . فالساعة بالقياس إلى البشر غيب ، وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب كله غيب يؤمن به المؤمن ، تصديقا لخبر الله سبحانه .

والغيب الذي يتحقق الإيمان بالتصديق به يشمل حقائق أخرى يذكرها القرآن الكريم في وصف واقع المؤمنين وعقيدتهم الشاملة :

( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون . كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله . لا نفرق بين أحد من رسله . وقالوا : سمعنا وأطعنا . غفرانك ربنا ، وإليك المصير ) . [ البقرة : 285 ] .

فنجد في هذا النص أن رسول الله [ ص ] والمؤمنين كذلك ، كل آمن بالله - وهو غيب - وآمن بما أنزل الله على رسوله - وما أنزل الله على رسوله فيه جانب من إطلاعه [ ص ] على جانب من الغيب بالقدر الذي قدره الله - سبحانه - كما قال في الآية الأخرى : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول ) . . [ الجن : 27 - 26 ] .

وآمن بالملائكة - وهي غيب - لا يعرف عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله ، على قدر طاقتهم وحاجتهم .

ويبقى من الغيب الذي لا يقوم الإيمان إلا بالتصديق به : قدر الله - وهو غيب لا يعلمه الإنسان حتى يقع - كما جاء في حديث الإيمان : " . . . والقدر خيره وشره " . . . [ اخرجه الشيخان ] "

على أن الغيب في هذا الوجود يحيط بالإنسان من كل جانب . . غيب في الماضي وغيب في الحاضر ، وغيبفي المستقبل . . غيب في نفسه وفي كيانه ، وغيب في الكون كله من حوله . . غيب في نشأة هذا الكون وخط سيره ، وغيب في طبيعته وحركته . . غيب في نشأة الحياة وخط سيرها ، وغيب في طبيعتها وحركتها . . غيب فيما يجهله الإنسان ، وغيب فيما يعرفه كذلك !

ويسبح الإنسان في بحر من المجهول . . حتى ليجهل اللحظة ما يجري في كيانة هو ذاته فضلا على ما يجري حوله في كيان الكون كله ؛ وفضلا عما يجري بعد اللحظة الحاضرة له وللكون كله من حوله : ولكل ذره ، وكل كهرب من ذرة ؛ وكل خلية وكل جزئي من خلية !

إنه الغيب . . إنه المجهول . . والعقل البشري - تلك الذبالة القريبة المدى - إنما يسبح في بحر المجهول . فلا يقف إلا على جزر طافية هنا وهنالك يتخذ منها معالم في الخضم . ولولا عون الله له ، وتسخير هذا الكون ، وتعليمه هو بعض نواميسه ، ما استطاع شيئا . . ولكنه لا يشكر . . ( وقليل من عبادي الشكور ) . . بل إنه في هذه الأيام ليتبجح بما كشف الله له من السنن ، وبما آتاه من العلم القليل . . يتبجح فيزعم أحيانا أن " الإنسان يقوم وحده " ولم يعد في حاجة إلى إله يعينه ! ويتبجح أحيانا فيزعم أن " العلم " يقابل " الغيب " وأن " العلمية " في التفكير والتنظيم تقابل " الغيبية " وأنه لا لقاء بين العلم والغيب ؛ كما أنه لا لقاء بين العقلية العلمية والعقلية الغيبية !

فلنلق نظرة على وقفة " العلم " أمام " الغيب " . . في بحوث وأقوال " العلماء " من بني البشر أنفسهم - بعد أن نقف أمام كلمة الفصل التي قالها العليم الخبير عن علم الإنسان القليل - ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا ) . . . [ الإسراء : 85 ] ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) . . [ النجم : 29 ] وأن الغيب كله لله : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) [ الأنعام : 59 ] وأن الذي يعلم الغيب هو الذي يرى : ( أعنده علم الغيب فهو يرى ؟ ) . . [ النجم : 35 ] . . . وهي ناطقة بذاتها عن مدلولاتها . .

فلنلق نظرة على وقفة " العلم " أمام " الغيب " في بحوث وأقوال العلماء من بني الإنسان لا لنصدق بها كلمة الفصل من الله سبحانه - فحاشا للمؤمن أن يصدق قول الله بقول البشر - ولكننا نقف هذه الوقفة لنحاكم الذين يلوكون كلمات العلم والغيب ، والعلمية والغيبية ، إلى ما يؤمنون هم به من قول البشر ! ليعلموا أن عليهم هم أن يحاولوا " الثقافة " و " المعرفة " ليعيشوا في زمانهم ؛ ولا يكونوا متخلفين عن عقليته ومقررات تجاربه !

وليستيقنوا أن " الغيب " هو الحقيقة " العلمية " الوحيدة المستيقنة من وراء كل التجارب والبحوث والعلم الإنساني ذاته ! وأن " العلمية " في ضوء التجارب والنتائج الأخيرة مرادفة تماما " للغيبية " . . أما الذي يقابل الغيبية حقا فهو " الجهلية " ! ! ! الجهلية التي تعيش في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر - ربما - ولكنها لا تعيش في القرن العشرين ! ! !

عالم معاصر - من أمريكا - يقول عن " الحقائق " التي يصل إليها " العلم " بجملتها :

" إن العلوم حقائق مختبرة ؛ ولكنها مع ذلك تتأثر بخيال الإنسان وأوهامه ومدى بعده عن الدقة في ملاحظاته وأوصافه واستنتاجاته . ونتائج العلوم مقبولة داخل هذه الحدود . فهي بذلك مقصورة على الميادين الكمية في الوصف والتنبؤ . وهي تبدأ بالاحتمالات ، وتنتهي بالاحتمالات كذلك . . وليس باليقين . . ونتائج العلوم بذلك تقريبية ، وعرضة للأخطاء المحتملة في القياس والمقارنات ؛ ونتائجها اجتهادية ، وقابلة للتعديل بالإضافةوالحذف ، وليست نهائية . وإننا لنرى أن العالم عندما يصل إلى قانون أو نظرية يقول : إن هذا هو ما وصلنا إليه حتى الآن ، ويترك الباب مفتوحا لما قد يستجد من التعديلات " .

وهذه الكلمة تلخص حقيقة جميع النتائج التي وصل إليها العلم ، والتي يمكن أن يصل إليها كذلك . فطالما أن " الإنسان " بوسائله المحدودة ، بل بوجوده المحدود بالقياس إلى الأزل والأبد هو الذي يحاول الوصول إلى هذه النتائج ؛ فإنه من الحتم أن تكون مطبوعة بطابع هذا الإنسان ، ولها مثل خصائصه من كونها محدودة المدى ؛ وقابلة للخطأ والصواب ، والتعديل والتبديل . .

على أن الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى أية نتيجة هي التجربة والقياس . فهو يجرب ، ثم يعمم النتيجة التي يصل إليها عن طريق القياس ؛ والقياس - باعتراف العلم وأهله - وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية ؛ ولا يمكن أبدا أن تكون قطعية ولا نهائية . والوسيلة الأخرى - وهي التجربة والاستقصاء بمعنى تعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة وفي جميع الظروف - وسيلة غير مهيأة للإنسان . وهي إحدى الوسائل الموصلة إلى نتائج قطعية . ولا سبيل إلى نتيجة قطعية وحقيقة يقينية إلا عن طريق هدى الله الذي يبينه للناس . ومن ثم يبقى علم الإنسان فيما وراء ما قرره الله له ، علما ظنيا لا يصل إلى مرتبة اليقين بحال !

على أن " الغيب " ضارب حول الإنسان فيما وراء ما يصل إليه علمه الظني ذاك . . .

هذا الكون من حوله . . إنه ما يزال يضرب في الفروض والنظريات حول مصدره ونشأته وطبيعته وحول حركته ، وحول " الزمان " ما هو وحول " المكان " وارتباطه بالزمان وارتباط ما يجري في الكون بالزمان والمكان .

والحياة . ومصدرها . ونشأتها . وطبيعتها . وخط سيرها . والمؤثرات فيها . وارتباطها بهذا الوجود " المادي " ! إن كان هناك في الكون مادة على الإطلاق ذات طبيعة غير طبيعة " الفكر " وغير طبيعة الطاقة على العموم !

" والإنسان " ما هو ؟ ما الذي يميزه من المادة ؟ وما الذي يميزه عن بقية الأحياء ؟ وكيف جاء إلى هذه الأرض وكيف يتصرف ؟ وما " العقل " الذي يتميز به ويتصرف ؟ وما مصيره بعد الموت والإنحلال ؟ . .

بل هذا الكيان الإنساني ذاته ، ما الذي يجري في داخله من تحليل وتركيب في كل لحظة ؟ وكيف يجري ؟ . .

إنها كلها ميادين للغيب ، يقف العلم على حافاتها ، ولا يكاد يقتحهما ، حتى على سبيل الظن والترجيح . وإن هي إلا فروض واحتمالات !

ولندع ما لا يشغل العلم به نفسه - إلا قليلا في هذا القرن - من حقيقة الألوهية ، وحقيقة العوالم الأخرى من ملائكة وجن وخلق لا يعلمه إلا الله . ومن حقيقة الموت ، وحقيقة الآخرة . وحقيقة الحساب والجزاء . . لندع هذا كله لحظة ففي " الغيب " القريب ، الكفاية ، ومن هذا الغيب يقف العلم وقفة التسليم ، الذي لا يخرج عنه إلا من يؤثرون المراء على " العلم " والتبجح على الإخلاص !

ونضرب بعض الأمثال . .

1 - في قاعدة بناء الكون وسلوكه :

الذرة - فيما يقول العلم الحديث - قاعدة بناء الكون . وليست هي أصغر وحدة في بناء هذا العالم . فهي مؤلفة من بروتونات [ طاقة كهربية موجبة ] والكترونات [ طاقة كهربية سالبة ] ونيوترونات [ طاقة محايدة مكونه من طاقة كهربائية موجبة وطاقة كهربائية سالبة متعادلتين ساكنتين ] وحين تحطم الذرة تتحرر الكهارب [ الإلكترونات ] ولكنها لا تسلك في المعمل سلوكا حتميا موحدا . فهي تسلك مرة كأنها أمواج ضوئية ومرة كأنها قذائف . ولا يمكن تحديد سلوكها المقبل مقدما . وإنما هي تخضع لقانون آخر - غير الحتمية - هو قانون الاحتمالات . وكذلك تسلك الذرة نفسها ، والمجموعة المحدودة من الذرات [ في صورة جزيئات ] هذا السلوك . يقول سير جيمس جيننر - الإنجليزي - الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات :

" لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق ، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقا واحدا : وهو الطريق الذي رسم من قبل ، لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته ، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول ، وألا مناص من أن الحالة [ أ ] تتبعها الحالة [ ب ] أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن هو : أن الحالة [ أ ] يحتمل أن تتبعها [ ب ] أو [ ج ] أو [ د ] أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر . نعم إن في استطاعته أن يقول : إن حدوث الحالة [ ب ] أكثر أحتمالا من حدوث الحالة [ ج ] وإن الحالة [ ج ] أكثر احتمالا من الحالة [ د ] . . وهكذا بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات [ ب ] و [ ج ] و [ د ] بعضها بالنسبة إلى بعض . ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين : أي الحالات تتبع الأخرى . لأنه يتحدث دائما عما يحتمل . أما ما يجب أن يحدث فأمره موكول إلى الأقدار - مهما تكن حقيقة هذه الأقدار ! " .

فمإذا يكون " الغيب " وماذا يكون قدر الله المغيب عن علم الإنسان ، إن لم يكن هو هذا الذي تنتهي إليه تجارب العلم الإنساني ، وتقف على عتباته في صلب الكون وذراته ؟

ويضرب مثلا لذلك إشعاع ذرات الراديوم ، وتحولها إلى رصاص وهليوم . . وهي خاضعة تماما لقدر مجهول ، وغيب مستور ، يقف دونه علم الإنسان :

" ولنضرب لذلك مثلا ماديا يريده وضوحا : من المعروف أن ذرات الراديوم وغيره من المواد ذات النشاط الإشعاعي ، تتفكك بمجرد مرور الزمن عليها ، وتخلف وراءها ذرات من الرصاص والهليوم . ولهذا فإن كتلة من الراديوم ينقص حجمها باستمرار ، ويحل مكانها رصاص وهليوم . والقانون العام الذي يتحكم في معدل التناقص غريب غاية الغرابة . ذلك أن كمية من الراديوم تنقص بنفس الطريقة التي ينقص بها عدد من السكان ، إذا لم تجد عليهم مواليد ، وكانت نسبة تعرض كل منهم للوفاة واحدة بغض النظر عن السن ؛ أو أنها تنقص كما ينقص عدد أفراد كتيبة من الجند معرضين لنيران ترسل عليهم اعتباطا ، ومن غير أن يكون أحدهم مقصودا لذاته . ومجمل القول إنه ليس لكبر السن أثر ما في ذرة الراديوم الواحدة . فإنها لا تموت لأنها قد استوفت حظها من الحياة ، بل لأن المنية قد أصابتها خبط عشواء .

" ولنوضح هذه الحقيقة بمثل مادي فنقول : إذا فرض أن بحجرتنا ألفين من ذرات الراديوم . فإن العلم لا يستطيع أن يقول : كم منها يبقى حيا بعد عام . بل كل ما يستطيعه هو أن يذكر فقط الاحتمالات التي ترجح بقاء 2000 أو 1999 أو 1998 ، وهكذا . وأكثر الأمور احتمالا في الواقع هو أن يكون العدد 1999 ، أي أن أرجح الاحتمالات هو أن ذرة واحدة لا أكثر من الألفي ذرة ، هي التي تتحلل في العام التالي .

" ولسنا ندري بأية طريقة تختار تلك الذرة المعينة من بين هذه الألفي ذرة . وقد نشعر في بادى ء الأمر بميل إلى افتراض أن هذه الذرة ستكون هي التي تتعرض للاصطدام أكثر من غيرها ، أو التي تقع في أشد الأمكنة حرارة ، أو التي يصادفها غير هذا أو ذاك من الأسباب في العام التالي . ولكن هذا كله غير صحيح ، لأنه إذا كان في استطاعة الصدمات أو الحرارة أن تفكك ذرة واحدة ، فإن في استطاعتها أيضا أن تفكك ال 1999 ذرة الباقية ، ويكون في استطاعتنا أن نعجل بتفكيك الراديوم بمجرد ضغطه أو تسخينه ؛ ولكن كل عالم من علماء الطبيعة يقرر أن ذلك مستحيل ؛ بل هو يعتقد على الأرجح أن الموت يصيب في كل عام ذرة واحدة من كل 2000 من ذرات الراديوم ، ويضطرها إلى أن تتفكك . وهذه هي نظرية " التفكك التلقائي " التي وضعها " رذرفورد " و " سدي " في عام 1903

فكيف إذن يكون القدر الغيبي إن لم يكن هو هذا الذي تتشعع به الذرات على غير اختيار منها ولا من أحد . وعلى غير علم منها ولا من أحد ؟ !

إن الرجل الذي يقول هذا الكلام ، لا يريد أن يثبت به القدر الإلهي المغيب عن الناس . بل إنه ليحاول جاهدا أن يهرب من ضغط النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري ذاته . ولكن حقيقة الغيب تفرض نفسها عليه فرضا على النحو الذي نراه !

2- وكما تفرض حقيقة " الغيب " نفسها على قاعدة بناء الكون وحركته ، فهي كذلك تفرض نفسها على قاعدة انبثاق الحياة وحركتها بنفس القوة في النتائج التي ينتهي إليها العلم البشري .

يقول عالم الأحياء والنبات " رسل تشارلز إرنست " الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا :

" لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس ، أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة . وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات . ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية ، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين . ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية . وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذين خلق الأشياء ودبرها .

" إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها . وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق . ولذلك فإننيأؤمن بوجود الله إيمانا راسخًا " .

والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب الله ، كنشأة الكون وحركته ؛ وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات . وصدق الله العظيم : ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) . . .

3- ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان . . إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحو ستين مليونا من الحيوانات المنوية . . كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرآة . . ولا يعلم أحد من الذي يسبق ! فهو غيب ، أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به - بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر ! - ثم يصل السابق من بين ستين مليونا ! ويلتحم مع البويضة ليكونا معا خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين . ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة ، بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث ؛ فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة ، هو الذي يقرر مصير الجنين - ذكرا أو أنثى - وهذا خاضع لقدر الله الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر - بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما : ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد . وكل شيء عنده بمقدار . عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) . . [ الرعد : 9 - 8 ]( لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور . أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ، إنه عليم قدير ) . . [ الشورى : 50 - 49 ] ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك ، لا إله إلا هو فأني تصرفون ؟ ) . . . [ الزمر : 6 ] .

هذا هو " الغيب " الذي يقف أمامه " العلم " البشري ؛ ويواجهه في القرن العشرين . . بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن " الغيبية " تنافي " العلمية " . وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية ! ذلك بينما العلم البشري ذاته . . علم القرن العشرين . . يقول : إن كل ما يصل إليه من النتائج هو " الاحتمالات " ! وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك " غيبًا " لا شك فيه !

على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب ، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة " الغيب " في العقيدة الإسلامية ، وفي التصور الإسلامي ، وفي العقلية الإسلامية .

إن القرآن الكريم - وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشى ء التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية - يقرر أن هناك عالما للغيب وعالما للشهادة . فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبا ، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولا . .

إن هنالك سننا ثابته لهذا الكون ؛ يملك " الإنسان " أن يعرف منها القدر اللازم له ، حسب طاقته وحسب حاجته ، للقيام بالخلافة في هذه الأرض . وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية ؛ وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة ، وتعمير الأرض ، وترقية الحياة ، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها . .

وإلى جانب هذه السنن الثابته - في عمومها - مشيئة الله الطليقة ؛ لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها . وهناك قدر الله الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها . فهي ليست آلية بحتة ، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها ؛ وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها . وهذا القدر الذي ينفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها " غيب " لا يعلمه أحد علم يقين ؛ وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون و " الاحتمالات " . . وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضًا . .

وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة ؛ وكلها " غيب " بالقياس إليه ، وهي تجري في كيانه ! ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله ؛ وهو لا يعلمها !

وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون . وحاضره وحاضر الكون . ومستقبله ومستقبل الكون . . وذلك مع وجود السنن الثابتة ، التي يعرف بعضها ، وينتفع بها انتفاعا علميا منظما في النهوض بعبء الخلافة .

وإن " الإنسان " ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه ! وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله ! . . وكذلك كل شيء حي . . ومهما تعلم ومهما عرف ، فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئا !

إن العقلية الإسلامية عقلية " غيبية علمية " لأن " الغيبية " هي " العلمية " بشهادة " العلم " والواقع . . أما التنكر للغيب فهو " الجهلية " التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة !

وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله ؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل ، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض ، والتعامل معها على قواعد ثابته . . فلا يفوت المسلم " العلم " البشري في مجاله ، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعية ؛ وهي أن هنالك غيبا لا يطلع الله عليه أحدا ، إلا من شاء ، بالقدر الذي يشاء . .

والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها " الفرد " فيتجاوز مرتبة " الحيوان " الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة " الإنسان " الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس - أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس - وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ، ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ؛ وفي إحساسه بالكون ، وما وراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض . فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ؛ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ؛ وأن وراء الكون . . ظاهرة وخافية . . حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمد من وجودها وجوده . . حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ، ولا تحيط بها العقول . .

. . . " لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان - كجماعة الماديين في كل زمان - يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى . . إلى عالم البهيمة ، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا " تقدمية " ! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها . فجعل صفتهم المميزة هي صفة : ( الذين يؤمنون بالغيب ) . . . والحمد لله على نعمائه ؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين " .

والذين يتحدثون عن " الغيبية " و " العلمية " يتحدثون كذلك عن " الحتمية التاريخية " كأن كل المستقبل مستيقن ! و " العلم " في هذا الزمان يقول : إن هناك " احتمالات " وليست هنالك " حتميات " !

ولقد كان ماركس من المتنبئين " بالحتميات " ! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم ؟

لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلترا ، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر . . فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفا صناعيا . . في روسيا والصين وما إليها . . ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية !

ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي . وها هو ذا خليفتهما " خروشوف " يحمل راية " التعايش السلمي " !

ولا نمضي طويلا مع هذه " الحتميات " التنبؤية ! فهي لا تستحق جدية المناقشة !

إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب ، وكل ما عداها احتمالات . وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره . وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو . وإن هنالك - مع هذا وذلك - سننا للكون ثابته ، يملك الإنسان أن يتعرف إليها ، ويستعين بها في خلافة الأرض ، مع ترك الباب مفتوحا لقدر الله النافذ ؛ وغيب الله المجهول . . وهذا قوام الأمر كله . . ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) .