إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (59)

{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب } بيانٌ لاختصاص المقدوراتِ الغيبية به تعالى من حيثُ العلمُ إثرَ بيانِ اختصاصِ كلِّها به تعالى من حيثُ القدرةُ ، والمفاتحُ إما جمعُ مفتَح بفتح الميم وهو المخزَن فهو مستعارٌ لمكان الغيب كأنها مخازِنُ خُزِنت فيها الأمورُ الغيبيةُ يُغلق عليها ويُفْتَح ، وإما جمعُ مفتِح بكسرها ، وهو المفتاح ، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ ( مفاتيحُ الغيب ) فهو مستعارٌ لما يُتوصَّلُ به إلى تلك الأمورِ بناءً على الاستعارة الأولى ، أي عنده تعالى خاصةُ خزائنِ غُيوبِه أو يُتوصَّلُ به إليها ، وقولُه عز وجل : { لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله ، وإيذانٌ بأن المرادَ هو الاختصاصُ من حيث العلمُ لا من حيث القدرةُ ، والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى أُلزِمَكم بتعجيله ، ولا معلوماً لديّ لأُخبرَكم وقتَ نزولِه ، بل هو مما يَختصُّ به تعالى قدرةً وعلماً فيُزلُه حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالِه ، وقولُه تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا في البر والبحر } بيان لتعلّق علمِه تعالى بالمشاهَدات إثرَ بيان تعلُّقِه بالمغيَّباتِ تكملةً له وتنبيهاً على أن الكلَّ بالنسبة إلى علمِه المحيطِ سواءٌ في الجَلاءِ ، أي يعلم ما فيهما من الموجودات مُفصّلةً على اختلاف أجناسِها وأنواعِها وتكثُّرِ أفرادِها ، وقولُه تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } بيانٌ لتعلُّقه بأحوالها المتغيَّرةِ بعد بيانِ تعلقِه بذواتها ، فإن تخصيصَ حالِ السقوطِ بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاءِ بذكرها عن ذكر سائر الأحوال ، كما أن ذكرَ حالِ الورقةِ وما عُطفَ عليها خاصةً دون أحوالِ سائرِ ما فيهما من فنونِ الموجودات الفائتة للحصر باعتبارِ أنها أُنموذَجٌ لأحوال سائرِها ، وقولُه تعالى : { وَلاَ حَبَّةٍ } عطفٌ على ( ورقةٍ ) وقولُه تعالى : { في ظلمات الأرض } متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لحبة مفيدةٌ لكمال نفوذِ علمِه تعالى أي ولا حبةٍ كائنةٍ في بطونِ الأرض إلا يعلمها ، وكذا قولُه تعالى : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } معطوفان عليها داخلان في حُكمها وقولُه تعالى : { إِلاَّ في كتاب مُبِينٍ } بدلٌ من الاستثناءِ الأول بدلَ الكلِّ [ من الكل ] على أن الكتابَ المُبِينَ عبارةٌ عن علمه تعالى أو بدلَ الاشتمالِ على أنه عبارةٌ عن اللوحِ المحفوظ ، وقرئ الأخيران بالرفع عطفاً على محلِّ ( من ورقة ) وقيل : رفعُهما بالابتداء والخبرُ ( إلا في كتاب مبين ) وهو الأنسبُ بالمقام لشمول الرطبِ واليابس حينئذ لِما ليس من شأنه السقوطُ ، وقد نُقل قراءةُ الرفعِ في ( ولا حبةٌ ) أيضاً .