فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (59)

{ وعنده مفاتح الغيب } جمع مفتح وهو المخزن أي عنده مخازن الغيب ، جعل للأمور الغيبية مخازن يخزن فيها على طريق الاستعادة أو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الإستعارة أيضا ، ويؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميقع { وعنده مفاتيح الغيب } فإنها جمع مفاتيح والمعنى أن عنده خاصة مخازن الغيب أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن .

{ لا يعلمها إلا هو } جملة مؤكدة لمضمون الجملة الأولى وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها ، وهذا بيان لاختصاص المقدورات الغيبية به تعالى من حيث العلم أثر بيان اختصاص كلها من حيث القدرة ، ويندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق إندراجا أوليا .

وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم ، ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحبط به عملهم ، ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد ) {[693]} .

قال ابن مسعود : أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب . وقال ابن عباس : إنها الأقدار والأرزاق وقال الضحاك : خزائن الأرض وعلم نزول العذاب ، وقال عطاء : هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب ، وقيل هو انقضاء الآجال وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم ، وقيل هو علم ما لم يكن بعد أن يكون إذ يكون كيف يكون وما لا يكون إن لو كان كيف يكون ، واللفظ أوسع من ذلك ويدخل فيه ما ذكره دخولا أوليا .

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله ، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يدري أحد متى يجيء المطر ) {[694]} ، أخرجه البخاري وله ألفاظ وفي رواية ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله .

{ ويعلم ما في البر والبحر } خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علما مفصلا لا يخفى عليه منه شيء أو خصهما لكونهما ما يشاهده الناس ويتطلعون لعلم ما فيهما ، وعلى هذا هو بيان لتعلق علمه بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات ، قال مجاهد : البر المفاوز والقفار ، والبحر القرى والأمصار لا يحدث فيهما شيء إلا وهو يعلمه .

وقال الجمهور : هو البر والبحر المعروفان لأن جميع الأرض إما بر ، وإما بحر وفي كل واحد منهما من عجائب وغرائب ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه .

{ وما تسقط من ورقة } أي من ورق الشجر وما يبقى عليه وهو تخصيص بعد التعميم { إلا يعلمها } ويعلم زمان سقوطها ومكانه وقيل المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق ، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم ، قال ابن عطية : هذا قول جار على طريق الرموز ، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه .

{ ولا حبة } كائنة { في ظلمات الأرض } أي في الأمكنة المظلمة وقيل في بطن الأرض قبل أن تنبت ، وقيل هي الحبة في الصخرة التي في أسفل الأرضين { ولا رطب ولا يابس } بنوع دون نوع { إلا في كتاب مبين } هو اللوح المحفوظ فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من { إلا يعلمها } وقيل هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة قاله الخطيب .

وقال الزمخشري : هو كالتكرير لقوله : { إلا يعلمها } لأن معناهما واحد ، قال الشيخ ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد ، وحسن كونه فاصلا .


[693]:أبو داود كتاب الطب باب 21.
[694]:صحيح الجامع الصغير 5760.