محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (59)

ثم بين تعالى اختصاص المقدورات الغيبية به ، من حيث العلم ، إثر بيان اختصاص جميعها به تعالى من حيث القدرة ، بقوله :

[ 59 ] { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ( 59 ) } .

{ وعنده مفاتح الغيب } جمع ( مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح ) وقرئ { مفاتيح الغيب } شبه بالأمور الجليلة التي يستوثق منها بالأقفال ، وأثبت لها المفاتيح تخييلا .

وقوله تعالى : { لا يعلمها إلا هو } تأكيد لمضمون ما قبله ، وإيذان بأن المراد الاختصاص من حيث العلم . والمعنى : ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدورا لي ، حتى ألزمكم بتعجيله ، ولا معلوما لدي لأخبركم بوقت نزوله ، بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلما ، فينزله حسبما تقتضيه مشيئته ، المبنية على الحكم والمصالح- أفاده أبو السعود- .

ثم لما بين تعالى تعلق علمه بالمغيبات ، تأثره بالمشاهدات ، على اختلاف أنواعها ، وتكثر أفرادها بقوله/ { ويعلم ما في البر والبحر } من الخلق والعجائب . ثم بالغ في إحاطة علمه / بالجزئيات الفائتة للحصر بقوله سبحانه : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } أي : مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي .

تنبيهات

الأول- قال الحاكم : دل قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب } على بطلان قول الإمامية : إن الإمام يعلم شيئا من الغيب . انتهى .

وفي ( فتح البيان ) : في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من مدعي الكشف والإلهام ، ما ليس من شأنهم ، ولا يدخل تحت قدرتهم ، ولا يحيط به علمهم . ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة ، والأنواع المخذولة ، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدق صلى الله عليه وسلم{[3485]} : " من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد " .

قال ابن مسعود : " أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب " .

وقال ابن عباس : " إنها الأقدار والأرزاق " .

وقال الضحاك : خزائن الأرض ، وعلم نزول العذاب .

وقال عطاء : هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب .

/ وقيل : هو انقضاء الآجال ، وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم . واللفظ أوسع من ذلك .

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال{[3486]} : " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها / إلا الله تعالى . لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله . ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله . ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا . ولا تدري نفس بأي أرض تموت . ولا يدري أحد متى يجيء المطر " . - أخرجه البخاري- وله ألفاظ . وفي رواية : " ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله " . انتهى .

الثاني- قرئ { ولا حبة ولا رطب ولا يابس } بالرفع ، وفيه وجهان : أن يكون عطفا على محل ( من ورقة ) وأن يكون رفعا على الابتداء ، وخبره { إلا في كتاب مبين } كقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار – كذا في ( الكشاف ) - .

الثالث- ما أسلفناه في ( الكتاب المبين ) من أنه ( اللوح المحفوظ ) هو المتبادر من إطلاقه أينما ورد . وقيل : الكتاب المبين علم الله تعالى . والأظهر الأول .

قال الزجاج : يجوز أن يكون الله عز وجل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق ، كما قال عز وجل : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها }{[3487]} وفائدة هذا الكتاب أمور :

/ أحدهما- أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات ، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء ، فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ ، لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم ، فيجدونه موافقا له .

وثانيها- يجوز أن يقال : أنه تعالى ذكر ما ذكر ، من الورقة والحبة ، تنبيها للمكلفين على أمر الحساب ، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء ، لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف ، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى .

وثالثها- أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات ، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم ، وإلا لزم الجهل ، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام ، امتنع أيضا تغييرها ، وإلا لزم الكذب ، فتصير كتبه جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا تاما ، وسببا كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر ، وتأخر ما تقدم ، كما قال صلوات الله عليه{[3488]} : " جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " . انتهى .

الرابع- روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : " في قوله تعالى : { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } قال : ما من شجرة في بر ولا بحر ، إلا ملك موكل بها ، يكتب ما يسقط منها " .

/ وأخرج أيضا عن عبد الله بن الحرث قال : " ما في الأرض من شجرة ، ولا كمغرز إبرة ، إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها . يبسها إذا يبست ورطوبتها إذ رطبت " . وكذا رواه ابن جرير{[3489]} .

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " خلق الله النون وهي الدواة ، وخلق الألواح ، فكتب فيها أمر الدنيا حتى تنقضي ، ما كان من خلق مخلوق ، أو رزق حلال أو حرام ، أو عمل بر أو فجور ، وقرأ هذه الآية : { وما تسقط من ورقة . . . } إلى آخر الآية " .


[3485]:- أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة رقم 408 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى حائضا أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه، فقد برئ مما أنزل الله على محمد عليه الصلاة والسلام". واخرجه ابن ماجة في: 1- كتاب الطهارة، 122- باب النهي عن إتيان الحائض، الحديث رقم 639 (طبعتنا).
[3486]:- لتعدد روايات هذا الحديث، ولاختلاف بعض ألفاظ فيها، ترانا مضطرين إلى سرد جميعها عن كتابنا (جامع مسانيد صحيح البخاري) والحديث رقم 579. وهو برقم 72 من مسند عبد الله بن عمر. وهاكمو نصوص رواياته: 15- كتاب الاستسقاء، 29 باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله. حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون في غد، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام. ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا. وما تدري نفس بأي أرض تموت. وما يدري أحد متى يجيء المطر". 65- كتاب التفسير، 6- سورة الأنعام، 1- باب {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}. حدثنا عبد العزيز بن عبد الله. حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتح الغيب خمس: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير}.". 65- كتاب التفسير 13- سورة الرعد، 1- باب {إن الله يعلم ما تحمل كل أنثى}. حدثني إبراهيم بن المنذر. حدثنا معن قال: حدثني مالك عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله. ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله. ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا اله. ولا تدري نفس بأي أرض تموت. ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله". 65- كتاب التفسير، 31- سورة لقمان، 2- باب {إن الله عنده علم الساعة}. حدثنا يحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب قال: حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر؛ أن أباه حدثه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مفاتيح الغيب خمس" ثم قرأ: {إن الله عنده علم الساعة}. 97- كتاب التوحيد، 4- باب قول الله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا}. حدثنا خالد بن مخلد. حدثنا سليمان بن بلال. حدثني عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله. ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله. ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله. ولا تدري نفس بأي أرض تموت. ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله".
[3487]:- [57/ الحديد/ 22] {... إن ذلك على الله يسير (22)}.
[3488]:- أخرجه الإمام أحمد في المسند بالصفحة رقم 197 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) والحديث رقم 6854 م ت(طبعة المعارف) ونصه: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق خلقه، ثم جعلهم في ظلمة، ثم أخذ من نوره ما شاء ثم ألقاه عليهم، فأصاب النور من شاء أن يصيبه، وأخطأ من شاء. فمن أصابه النور يومئذ فقد اهتدى، ومن أخطأ يومئذ ضل. فلذلك قلت: جف القلم بما هو كائن".
[3489]:- الأثر رقم 13308 من التفسير.