وقوله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } يقول [ تعالى ]{[11332]} لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهم - يا محمد : { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } أي : له الحكمة التامة ، والحجة البالغة في هداية من هَدى ، وإضلال من أضل ، { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } وكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره ، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويُبْغض الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } [ الأنعام : 35 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ [ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ] }{[11333]} [ يونس : 99 ] ، وقوله{[11334]} { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 118 ، 119 ] .
قال الضحاك : لا حجة لأحد عصى الله ، ولكن لله الحجة البالغة على عباده .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، القائلين على ربهم الكذب في تحريمهم ما حرّموا من الحروث والأنعام ، إن عجزوا عن إقامة الحجة عند قيلك لهم : هل عندكم من علم بما تدّعون على ربكم فتخرجوه لنا ، وعن إخراج علم ذلك لك وإظهاره ، وهم لا شكّ عن ذلك عجزة ، وعن إظهاره مقصرّون ، لأنه باطل لا حقيقة له . فلِلّهِ الذي حرّم عليكم أن تشركوا به شيئا ، وأن تتبعوا خطوات الشيطان في أموالكم من الحروث والأنعام ، الحُجّةُ البَالِغَةُ دونكم أيها المشركون . ويعني بالبالغة : أنها تبلغ مراده في ثبوتها على من احتجّ بها عليه من خلقه ، وقَطْعِ عذره إذا انتهت إليه فيما جعلت حجة فيه . فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أجمَعينَ يقول : فلو شاء ربكم لوفقكم أجمعين للإجماع على إفراده بالعبادة والبراءة من الأنداد والاَلهة والدينونة ، بتحريم ما حرّم الله وتحليل ما حلله الله ، وترك اتباع خطوات الشيطان ، وغير ذلك من طاعاته . ولكنه لم يشأ ذلك ، فخالف بين خلقه فيما شاء منهم ، فمنهم كافر ومنهم مؤمن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : لا حجة لأحد عصى الله ، ولكن لله الحجة البالغة على عباده . وقال : فَلَوْ شَاءَ لَهَداكُمْ أجمَعِينَ قال : لا يَسُئلُ عَمّا يفْعَلُ وَهُمْ يُسْئلُونَ .
جواب عن قولهم : { لو شاء الله ما أشرَكْنا ولا آباؤنا } [ الأنعام : 148 ] تكملة للجواب السّابق لأنَّه زيادة في إبطال قولهم ، وهو يشبه المعارضة في اصطلاح أهل الجدل .
وأعيد فعل الأمر بالقول لاسترعاء الأسماع لِما سيرد بعد فعل : { قل } وقد كرّر ثلاث مرات متعاقبة بدون عطف ، والنكتة ما تقدم من كون القول جارياً على طريقة المقاولة .
والفاء فصيحة تؤذن بكلام مقدّر هو شرط ، والتّقدير : فإن كان قولكم لمجرّد اتّباع الظنّ والخرص وسوء التّأويل فللّه الحجّة البالغة . وتقديم المجرور على المبتدأ لإفادة الاختصاص ، أي : لله لا لكم ، ففهم منه أنّ حجتّهم داحضة .
والحجّة : الأمر الذي يدلّ على صدق أحد في دعواه وعلى مصادفة المستدلّ وجه الحقّ ، وتقدّم القول فيها عند قوله تعالى : { لئلا يكون للنّاس عليكم حجّة } في سورة البقرة ( 150 ) .
والبالغة هي الواصلة : أي الواصلة إلى ما قُصدت لأجله ، وهو غَلَب الخصم ، وإبطالُ حجّته ، كقوله تعالى : { حِكْمة بالغة } [ القمر : 5 ] ، فالبلوغ استعارة مشهورة لحصول المقصود من الشّيء فلا حاجة إلى إجراء استعارة مكنيّة في الحجّة بأن تشبّه بسائر إلى غاية ، وقرينتها إثباتُ البلوغ ، ولا حاجة أيضاً إلى جعل إسناد البلوغ إلى الحجّة مجازاً عقلياً ، أي بالغاً صاحبُها قَصْدَه ، لأنَّه لا محيصّ من اعتبار الاستعارة في معنى البلوغ ، فالتّفسير به من أوّل وهلة أولى ، والمعنى : لله الحجّة الغالبة لكم ، أي وليس استدلالُكم بحجّة .
والفاء في قوله : { فلو شاء } فاء التّفريع على ظهور حجّة الله تعالى عليهم : تفرع على بطلان استدلالهم أنّ الله لو شاء لهداهم ، أي لو شاء هدايتهم بأكثر من إرسال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بأن يغيّر عقولهم فتأتيَ على خلاف ما هُيِّئتْ له لَكَان قد فعل ذلك بوجه عناية خاصّة بهم أو خارق عادة لأجلهم ، إذ لا يعجزه شيء ، ولكن حكمته قضت أن لا يعمّم عنايته بل يختصّ بها بعض خاصّته ، وأن لا يعدل عن سنّته في الهداية بوضع العقول وتنبيهها إلى الحقّ بإرسال الرّسل ونصب الأدلّة والدّعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة ، فالمشيئة المقصودة في قوله : فلو شاء لهداكم غير المشيئة المقصودة فيما حكى الله عنهم من قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } [ الأنعام : 148 ] وإلاّ لكان ما أُنكر عليهم قد أثبت نظيره عقب الإنكار فتتناقض المُحَاجَّة ، لأنّ الهداية تساوي عدم الإشراك وعدمَ التحريم ، فلا يصدُق جعل كليهما جواباً للَوْ الامتناعيّة ، فالمشيئة المقصودة في الردّ عليهم هي المشيئة الخفيّة المحجوبة ، وهي مشيئة التّكوين ، والمشيئة المنكرة عليهم هي ما أرادوه من الاستدلال بالواقع على الرّضى والمحبّة . هذا وجه تفسير هذه الآية التي كلَّلها من الإيجاز ما شتَّت أفهاماً كثيرة في وجه تفسيرها لا يَخفى بُعدها عن مُطالع التّفاسير والموازنةُ بينها وبين ما هنا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} لهم يا محمد: {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} لدينه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، القائلين على ربهم الكذب في تحريمهم ما حرّموا من الحروث والأنعام، إن عجزوا عن إقامة الحجة عند قيلك لهم: هل عندكم من علم بما تدّعون على ربكم فتخرجوه لنا، وعن إخراج علم ذلك لك وإظهاره، وهم لا شكّ عن ذلك عجزة، وعن إظهاره مقصرّون، لأنه باطل لا حقيقة له. "فلِلّهِ "الذي حرّم عليكم أن تشركوا به شيئا، وأن تتبعوا خطوات الشيطان في أموالكم من الحروث والأنعام، "الحُجّةُ البَالِغَةُ" دونكم أيها المشركون. ويعني بالبالغة: أنها تبلغ مراده في ثبوتها على من احتجّ بها عليه من خلقه، وقَطْعِ عذره إذا انتهت إليه فيما جعلت حجة فيه. "فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أجمَعينَ" يقول: فلو شاء ربكم لوفقكم أجمعين للإجماع على إفراده بالعبادة والبراءة من الأنداد والآلهة والدينونة، بتحريم ما حرّم الله وتحليل ما حلله الله، وترك اتباع خطوات الشيطان، وغير ذلك من طاعاته. ولكنه لم يشأ ذلك، فخالف بين خلقه فيما شاء منهم، فمنهم كافر ومنهم مؤمن...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
.. {قل فلله الحجة البالغة} التي إذا بلغت كل شبهة أزالتها، وكل غافل نائم نبهته، وأيقظته. وقيل: الحجة البالغة التامة القاهرة الظاهرة على كل شيء الغالبة عليه، لم تبلغ شيئا إلا قهرته، وغلبته...
ثم تحتمل الحجة البالغة وجوها: أحدها: هذا القرآن الذي أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية معجزة وحجة بالغة عجز الخلائق عن إتيان مثله. فدل عجزهم عن إتيان مثله على أنه آية من آيات الله وحجة من حجج الله، أرسلها على نبيه صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه جعل في كلية الخلائق والأشياء ما يشهد أن الخلائق والأشياء كلها لها شهادة خلقه، وتدل كلية الأشياء على وحدانيته، فهو حجة بالغة. والثالث: ألسن الرسل وأنباؤهم إذ لم يؤاخذهم بكذب قط في ما بينهم، ولا جرى على لسانهم كذب قط، ولا فحش. عصمهم عز وجل عن ذلك، فدل على أنهم إنما خصوا بذلك لما أن الله جعلهم حججا وآيات على وجه الأرض؛ حجة بالغة وبالله العصمة...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قوله تعالى:"قل فلله الحجة البالغة" أي التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها. فحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء، فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات، وأيد الرسل بالمعجزات، ولزم أمره كل مكلف. فأما علمه وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد، إلا من ارتضى من رسول. ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بعد أن نفى عنهم أدنى ما يقال له علم، وحصر ما هم عليه من الدين في أدنى مراتب الظن، مع أن أعلاها لا يغني من الحق من شيء، أثبت لذاته العلية في مقابلة ذلك الحجة العليا التي لا تعلوها حجة فقال: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. الحجة في اللغة: الدلالة المبينة للمحجة أي المقصد المستقيم كما قال الراغب فهي من الحج الذي هو القصد. والمعنى قل أيها الرسول لهؤلاء الجاهلين الذين بنوا قواعد دينهم على أساس الخرص الذي هو أضعف الظن، بعد تعجيزك إياهم عن الإتيان بأدنى دليل أو قول يرتقي إلى أدنى درجة من العلم: إن لم يكن عندكم علم ما في أمر دينكم، فلله وحده أعلى درجات العلم: بما بعثني به من محجة دينه القويم، وصراطه المستقيم، وهو الحجة البالغة ما أراد من إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وهي ما بينه في هذه السورة وغيرها من الآيات البينات على أصول العقائد وقواعد الشرائع وموافقتها لحكم العقول السليمة والفطر الكاملة، وسنن الله في الاجتماع البشري وتكميلها للنظام العام، الذي يعرج عليه الإنسان في مراقي الكمال، ولكن لا يكاد يهتدي بهذه الآيات المنبثة في الأكوان، المبينة في آية الله الكبرى وهي القرآن، إلا المستعد للهداية وهو المحب للحق الحريص على طلبه، الذي يستمع القول فيتبع أحسنه، دون من أطفأ باتباع الهوى نور فطرته، أو استخدام عقله لكبريائه وشهوته، المعرض عن النظر في الآيات استكبارا عنها، أو حسدا للمبلغ الذي جاء بها، أو جمودا على تقليد الآباء، واتباع الرؤساء.
فإنما الحجة علم وبيان، لا قهر ولا إلزام، وما على الرسل إلا البلاغ، وإلا فلو شاء هدايتكم بغير هذه الطريقة التي أقام أمر البشر عليها وهي التعليم والإرشاد بطريق النظر والاستدلال، وما ثم إلا الخلق والتكوين أو القهر والإلزام لهداكم أجمعين بجعلكم كذلك بالفطرة، كما خلق الملائكة مفطورين على الحق والخير وطاعة الرب {لا يعصون الله ما أمركم ويفعلون ما يؤمرون} (التحريم 6) أو بخلق الطاعة فيكم بغير شعور منكم ولا إرادة كجريان دمائكم في أبدانكم وهضم معدكم لطعامكم، أو مع الشعور بأنها ليست من أفعالكم. وحينئذ لا تكونون من نوع الإنسان الذي قضت الحكمة وسبق العلم بأن يخلق مستعدا لاتباع الحق والباطل، وعمل الخير والشر. وكونه يرجح بعض ما هو مستعد له على بعض بالاختيار واختياره لأحد النجدين على الآخر بمشيئته لا ينفي مشيئة الله تعالى ولا يعارضها فإنه تعالى هو الذي شاء أن يجعله فاعلا باختياره كما بيناه من قبل في مواضع.
ومثل هذه الآية قوله تعالى من هذه السورة: {ولو شاء الله ما أشركوا} (الأنعام: 106) وقوله منها أيضا: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} (الأنعام: 36) وأيضا {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} (الأنعام: 39) وقوله: {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} (المائدة:51) وقوله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (هود: 118) وقوله: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس: 99) فالآيات في هذا المعنى كلها بيان لسنة الله في خلق الإنسان كما بيناه في تفسير ما تقدم منها وفي مواضع أخرى وهي حجة على المجبرة والقدرية جميعا لا لهما...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قل: فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين). قضية واضحة، مصوغة في أيسر صورة يدركها الإدراك البشري. فأما المعاظلة فيها والمجادلة فهي غريبة على الحس الإسلامي وعلى المنهج الإسلامي.. ولم ينته الجدل فيها في أية فلسفة أو أي لاهوت إلى نتيجة مريحة. لأنه جدل يتناول القضية بأسلوب لا يناسب طبيعتها، إن طبيعة أي حقيقة هي التي تحدد منهج تناولها، وأسلوب التعبير عنها كذلك. الحقيقة المادية يمكن تناولها بتجارب المعمل. والحقيقة الرياضية يمكن تناولها بفروض الذهن. والحقيقة التي وراء هذا المدى، لا بد أن تتناول بمنهج آخر.. هو كما قلنا من قبل: منهج التذوق الفعلي لهذه الحقيقة في مجالها الفعلي. ومحاولة التعبير عنها بغير أسلوب القضايا الذهنية التي عولجت بها في كل ما جرى حولها من الجدل قديماً وحديثاً. وبعد فلقد جاء هذا الدين ليحقق واقعاً عملياً؛ تحدده أوامر ونواه واضحة. فالإحالة على المشيئة الغيبية دخول في متاهة، يرتادها العقل بغير دليل، ومضيعة للجهد الذي ينبغي أن ينفق في العمل الإيجابي الواقعي المشهود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جواب عن قولهم: {لو شاء الله ما أشرَكْنا ولا آباؤنا} [الأنعام: 148] تكملة للجواب السّابق لأنَّه زيادة في إبطال قولهم، وهو يشبه المعارضة في اصطلاح أهل الجدل. وأعيد فعل الأمر بالقول لاسترعاء الأسماع لِما سيرد بعد فعل: {قل} وقد كرّر ثلاث مرات متعاقبة بدون عطف، والنكتة ما تقدم من كون القول جارياً على طريقة المقاولة. والفاء فصيحة تؤذن بكلام مقدّر هو شرط، والتّقدير: فإن كان قولكم لمجرّد اتّباع الظنّ والخرص وسوء التّأويل فللّه الحجّة البالغة. وتقديم المجرور على المبتدأ لإفادة الاختصاص، أي: لله لا لكم، ففهم منه أنّ حجتّهم داحضة. والحجّة: الأمر الذي يدلّ على صدق أحد في دعواه وعلى مصادفة المستدلّ وجه الحقّ، وتقدّم القول فيها عند قوله تعالى: {لئلا يكون للنّاس عليكم حجّة} في سورة البقرة (150). والبالغة هي الواصلة: أي الواصلة إلى ما قُصدت لأجله، وهو غَلَب الخصم، وإبطالُ حجّته، كقوله تعالى: {حِكْمة بالغة} [القمر: 5]، فالبلوغ استعارة مشهورة لحصول المقصود من الشّيء فلا حاجة إلى إجراء استعارة مكنيّة في الحجّة بأن تشبّه بسائر إلى غاية، وقرينتها إثباتُ البلوغ، ولا حاجة أيضاً إلى جعل إسناد البلوغ إلى الحجّة مجازاً عقلياً، أي بالغاً صاحبُها قَصْدَه، لأنَّه لا محيصّ من اعتبار الاستعارة في معنى البلوغ، فالتّفسير به من أوّل وهلة أولى، والمعنى: لله الحجّة الغالبة لكم، أي وليس استدلالُكم بحجّة. والفاء في قوله: {فلو شاء} فاء التّفريع على ظهور حجّة الله تعالى عليهم: تفرع على بطلان استدلالهم أنّ الله لو شاء لهداهم، أي لو شاء هدايتهم بأكثر من إرسال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بأن يغيّر عقولهم فتأتيَ على خلاف ما هُيِّئتْ له لَكَان قد فعل ذلك بوجه عناية خاصّة بهم أو خارق عادة لأجلهم، إذ لا يعجزه شيء، ولكن حكمته قضت أن لا يعمّم عنايته بل يختصّ بها بعض خاصّته، وأن لا يعدل عن سنّته في الهداية بوضع العقول وتنبيهها إلى الحقّ بإرسال الرّسل ونصب الأدلّة والدّعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة، فالمشيئة المقصودة في قوله: فلو شاء لهداكم غير المشيئة المقصودة فيما حكى الله عنهم من قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148] وإلاّ لكان ما أُنكر عليهم قد أثبت نظيره عقب الإنكار فتتناقض المُحَاجَّة، لأنّ الهداية تساوي عدم الإشراك وعدمَ التحريم، فلا يصدُق جعل كليهما جواباً للَوْ الامتناعيّة، فالمشيئة المقصودة في الردّ عليهم هي المشيئة الخفيّة المحجوبة، وهي مشيئة التّكوين، والمشيئة المنكرة عليهم هي ما أرادوه من الاستدلال بالواقع على الرّضى والمحبّة. هذا وجه تفسير هذه الآية التي كلَّلها من الإيجاز ما شتَّت أفهاماً كثيرة في وجه تفسيرها لا يَخفى بُعدها عن مُطالع التّفاسير والموازنةُ بينها وبين ما هنا.