تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُۖ فَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ} (149)

الآية 149 وقوله تعالى : { قل فلله الحجة البالغة } التي إذا بلغت كل شبهة أزالتها ، وكل غافل نائم نبهته ، وأيقظته . وقيل : الحجة البالغة التامة القاهرة الظاهرة على كل شيء الغالبة عليه ، لم تبلغ شيئا إلا قهرته ، وغلبته .

وقال الحسن : الحجة البالغة في الآخرة ؛ ولا يعذب أحدا ، ولا يعاقبه إلا لحجة تلزم ، لا يعاقب بهوى أو انتقام أو شهوة على ما يعاقب في الشاهد ولا غيره ، ما من أحد من الخلائق إلا والله عليه الحجة البالغة أما الملك المقرب فإن الله جبلة على الطاعة ، فلا يعصيه ، منا من الله عليه وطولا وفضلا ، فهو مقصر عن شكر نعمة الله عليه . وأما النبي المرسل والعبد الصالح فلله عليهما السبيل والحجة من غير واحد .

ثم تحتمل الحجة البالغة وجوها :

أحدها : هذا القرآن الذي أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية معجزة وحجة بالغة عجز{[7899]} الخلائق عن إتيان مثله . فدل عجزهم عن إتيان مثله على أنه آية من آيات الله وحجة من حجج الله ، أرسلها على نبيه صلى الله عليه وسلم .

والثاني : أنه جعل في كلية الخلائق والأشياء ما يشهد أن الخلائق والأشياء كلها لها شهادة خلقه ، وتدل كلية الأشياء على وحدانيته ، فهو حجة بالغة .

والثالث : ألسن الرسل وأنباؤهم إذ{[7900]} لم يؤاخذهم بكذب قط في ما بينهم ، ولا جرى على لسانهم كذب قط ، ولا فحش . عصمهم عز وجل عن ذلك ، فدل على أنهم إنما خصوا بذلك لما أن الله جعلهم حججا وآيات على وجه الأرض ؛ حجة بالغة وبالله العصمة .

وقال بعضهم { فلله الحجة البالغة } في تحريم الأشياء وتحليلها ، ليس لهؤلاء الذين يحرمون أشياء ، لهم في تحريمهم حجة ؛ إنما يحرمون ذلك بهوى أنفسهم .

وقوله تعالى : { فلو شاء لهداهم أجمعين } قال الحسن : المشيئة ههنا{[7901]}مشيئة القدرة ، وقال : لو شاء قهرهم ، وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط على ما جعل الملائكة ؛ جبلهم على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية .

ثم هو{[7902]} يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعا ، ويقول : هم مجبورون على الطاعة . فذلك تناقض في القول ، لا يجوز . من كان مقهورا مجبورا على الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه والحاجات التي تغلب صاحبها ، وتمنعه عن العمل بالطاعة ، ويقول : فضّلهم بالجوهر والأصل ، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على ذلك الجوهر ؛ لأن الله تعالى لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونا بالأعمال الصالحة الطيبة كقوله تعالى : { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } [ إبراهيم : 24 ] وقوله{[7903]} تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [ الأعراف : 58 ] وقوله تعالى : { والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] ونحوه ، لم يفضل أحدا{[7904]} بالجوهر على أحد ، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة . لذلك قلنا : إن قوله{[7905]} يخرج على التناقض .

وتأويل قوله تعالى : { فلو شاء لهداكم أجمعين } [ عندنا ظاهر : لو ]{[7906]} شاء الله لهداهم جميعا ، ووفقهم للطاعة ، وأرشدهم . لذلك هو كقوله تعالى : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة } الآية [ الزخرف : 33 ] فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة ، وإذا كان [ ذلك الإيمان ]{[7907]} للمؤمنين آمنوا ، ثم لم يجعل [ لهم ]{[7908]} كذلك ، دل على أن قولهم { لو شاء الله ما أشركنا } [ الأنعام : 148 ] هو الأمر والرضا ، أو ذكروا على الاستهزاء حين قال تعالى { فلو شاء لهداكم أجمعين } .

والمعتزلة يقولون : المشيئة ههنا مشيئة قسر وقهر ، وقد ذكرنا ألا يكون في حال القهر إيمان ، وإنما يكون في حال الاختيار ، والمشيئة مشيئة الاختيار ، ولا تحتمل مشيئة الخلقة ؛ لأن كل أحد بشهادة الخلقة [ يؤمن ]{[7909]} . فدل أن التأويل ما ذكرنا .


[7899]:- أدرج قبلها في الأصل وم: ما.
[7900]:- في الأصل وم: حيث.
[7901]:- من م، في الأصل: هنا.
[7902]:- الضمير يعود على الحسن.
[7903]:- أدرج قبلها في الأصل وم: وغيره.
[7904]:- من م، في الأصل: أحد.
[7905]:- الضمير يعود على الحسن أيضا.
[7906]:- من م، في الأصل: فلو.
[7907]:- ساقطة من الأصل وم.
[7908]:- ساقطة من الأصل وم.
[7909]:- ساقطة من الأصل وم.