اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَٰلِغَةُۖ فَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ} (149)

قوله : " قُلْ فَلِلِّهِ " بين " قُلْ " وبين " فَلِلَّهِ " شيء مَحْذُوف ، فقدّره الزمخشري{[13]} شرطاً ؛ جوابه : فِلِلَّهِ ؛ قال : " فإن كان الأمر كما زَعَمْتُم من كَوْنِكُم على مشِيئَة اللَّه فللَّه الحُجَّة " .

وقدّره غيره جُمْلة اسميَّة ، والتقدير : قل أنْتُم لا حُجَّة لكم على ما ادَّعَيْتُم فِللَّهِ الحُجَّة البَالِغَة عليكم ، والحجة البالغة : هي التي تَقْطَعُ عذر المَحْجُوج ، وتطرد الشَّكَ عمن نَظَر فيها .

قوله : { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .

احتج به أهْلُ السُّنَّة على أن الكُلَّ بمشيئَة الله -تعالى- ؛ لأنَّ كلمة " لَو " في اللُّغة تُفيد انْتِفَاء الشَّيْ لانْتِفَاء غَيْره ، فدلّ هنا على أنَّه-تعالى- ما شَاءَ أن يَهْدِيهم وما هَدَاهُم أيضاً ، وتَقْرِيُره بالدَّلِيل العَقْلِي : أن قُدرَة الكَافِر على الكُفْرِ إن لَمْ تكن قُدْرَة على الإيمان ، فاللَّه -تعالى- عَلَى هذا التَّقْدير ما أقْدَرَهُ على الإيمان ، فلو شَاءَ الإيمان منه ، فَقَدْ شَاءَ الفِعْل من غير قُدْرَةٍ على الفِعْلِ ، وذلك مُحَالٌ ، ومشِيئَةُ المُحَال مُحَال ، وإن كانت القُدْرَةُ على الكُفْرِ قُدْرَةٌ على الإيمانِ ، تَوَقَّف رُجْحَان أحد الطَّرَفَيْن على حُصُول الدَّاعِية المُرَجِّحَة .

فإن قُلْنَا : إنه -تعالى- خلق تلك الدَّاعِيَة المُرَجِّحَة ، مع القُدْرَة ، ومَجْمُوعُهما للفعل ، فَحَيْثُ لم يَحْصُل الفِعْل ، عَلِمنا أن تِلْكَ الدَّاعِيَة لَمْ تَحْصُل ، وإذا لم تَحْصُل ، امتَنَع منه فِعْل الإيمان ، وإذا امْتَنَع ذلك منه ، امْتَنَع أن يُريدَه اللَّه مِنْه ؛ لأن إرَادَة المُحَال مُحَالٌ مُمْتَنِع ، فثبت أن ظَاهِر القُرْآن العَظيم دلّ على أنّه مَا أرَادَ الإيمان من الكَافِرِ ، والبُرْهَان العَقْلِي الذي قَرَّرْنَاهُ يدل عليه أيضاً ، فَبَطَل قولُهُم من كُلِّ الوُجُوه{[14]} .

فإن قالوا : نَحْمِل هذه الآية على مَشِيئَة الإلْجَاءِ .

فنقول : هذا التَّأويل إنما يَحْسُن المصير إليه ، لو ثَبَت بالبُرْهَان العقْلِيِّ امتِنَاع الحَمْل على [ ظَاهِرِ هذا الكلام ، أمّا لو قام البُرْهَان العَقْلِيُّ على ]{[15]} أن الحقّ ليس إلاَّ ما دلّ عليه هذا الظَّاهِر ، فكيف يُصَار إلى التَّأويل ؟ ثم نقول : التأويل بَاطِلٌ لوجوه :

الأول : أن هذا الكلامَ لا بُدَّ فيه من إضْمَار ، والتقدير : ولو شَاءَ اللَّه الهِدايةَ لهَدَاكُم ، وأنتم تَقُولون : التقدير : لو شاء الله الهِدَاية على سبيل الإلْجَاءِ لهَداكُم ، فإضْمَارُكُم أكثر ، فكَان قَوْلُكُم مرجُوحاً .

الثاني : أنه -تبارك وتعالى- يُريد من الكَافِر الإيمان الاخْتِيَاريّ ؛ والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ ، غير الإيمانِ الحَاصِلَ بالاخْتِيَار ، وعلى هذا التَّقدير : يلزم كَوْنُه -تعالى- عاجزاً عن تَحصِيل مرادِهِ ؛ لأن مُرَادَهُ الإيمان الاخْتِيَاري ، وأنه لا يَقْدِر ألْبَتَّة على تحْصِيلهِ ، فكان القَوْلُ بالعَجْزِ لاَزِماً{[16]} .

الثالث : أن هذا الكلام موقُوفٌ على الفَرْق بَيْن الإيمان الحاصِلِ بالاخْتِيَار ، وبين الإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ .

أمّا الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يَمْتَنِع حصُولُه إلاعِنْد داعيَةٍ جَازِمَة ، وإرادة لازِمَة ، فإن الدَّاعية التي يترتَّبُ عليها حُصُول الفِعْل ؛ إمّا أن تكون بحيث يَجِبُ ترتُّبُ الفِعْل عليها ، أوْ لا يَجِب ، فإن وَجَبَ ، فهي الدَّاعية الضَّرُوريِّة ، وحينئذٍ لا يَبْقى بينها وبين الدَّوَاعِي الحَاصِلة بالإلْجَاء فَرْق ، وإن لم يجب تَرَتُّب الفِعْل ، فحنيئذ يُمْكِن تخلُّف الفِعْل عنها ، فلْنَفْرِض تارة ذلك الفِعْل مُتَخَلِّفاً عنها ، وتارة غير مُتَخَلِّفٍ ، فامْتِيَاز الوَقْتَيْن عن الآخَرِ لا بُدّ وأن يَكُون لِمُرَجِّح زائدٍ ، فالحَاصِل قبل ذلك ما كان تَمَام الدَّاعِية ، وقد فرضْنَاه كذلك ، هذا خلف ، ثم عند انْضِمَام هذا القَيْد الزَّائِد وجب الفِعْل ، لم يبق بَيْنَه وبين الضَّرُورة فرْقٌ ، فإن لم يَجِب ، افْتَقَر إلى قيد زَائدٍ ، ولزم التَّسَلْسُل وهو مَحَالٌ ؛ فَثَبَت أن الفَرْق الذي ذَكَرُوه بين الدَّاعِية الاخْتِياريَّة وبين الدَّاعِيَة الضَّرُورية ، وإن كان في الظَّاهر معتَبَراً ، إلاَّ أنه عند التَّحْقِيق والبحث لا يبقى له مَحْصُولٌ{[17]} .


[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.