قوله : " قُلْ فَلِلِّهِ " بين " قُلْ " وبين " فَلِلَّهِ " شيء مَحْذُوف ، فقدّره الزمخشري{[13]} شرطاً ؛ جوابه : فِلِلَّهِ ؛ قال : " فإن كان الأمر كما زَعَمْتُم من كَوْنِكُم على مشِيئَة اللَّه فللَّه الحُجَّة " .
وقدّره غيره جُمْلة اسميَّة ، والتقدير : قل أنْتُم لا حُجَّة لكم على ما ادَّعَيْتُم فِللَّهِ الحُجَّة البَالِغَة عليكم ، والحجة البالغة : هي التي تَقْطَعُ عذر المَحْجُوج ، وتطرد الشَّكَ عمن نَظَر فيها .
قوله : { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
احتج به أهْلُ السُّنَّة على أن الكُلَّ بمشيئَة الله -تعالى- ؛ لأنَّ كلمة " لَو " في اللُّغة تُفيد انْتِفَاء الشَّيْ لانْتِفَاء غَيْره ، فدلّ هنا على أنَّه-تعالى- ما شَاءَ أن يَهْدِيهم وما هَدَاهُم أيضاً ، وتَقْرِيُره بالدَّلِيل العَقْلِي : أن قُدرَة الكَافِر على الكُفْرِ إن لَمْ تكن قُدْرَة على الإيمان ، فاللَّه -تعالى- عَلَى هذا التَّقْدير ما أقْدَرَهُ على الإيمان ، فلو شَاءَ الإيمان منه ، فَقَدْ شَاءَ الفِعْل من غير قُدْرَةٍ على الفِعْلِ ، وذلك مُحَالٌ ، ومشِيئَةُ المُحَال مُحَال ، وإن كانت القُدْرَةُ على الكُفْرِ قُدْرَةٌ على الإيمانِ ، تَوَقَّف رُجْحَان أحد الطَّرَفَيْن على حُصُول الدَّاعِية المُرَجِّحَة .
فإن قُلْنَا : إنه -تعالى- خلق تلك الدَّاعِيَة المُرَجِّحَة ، مع القُدْرَة ، ومَجْمُوعُهما للفعل ، فَحَيْثُ لم يَحْصُل الفِعْل ، عَلِمنا أن تِلْكَ الدَّاعِيَة لَمْ تَحْصُل ، وإذا لم تَحْصُل ، امتَنَع منه فِعْل الإيمان ، وإذا امْتَنَع ذلك منه ، امْتَنَع أن يُريدَه اللَّه مِنْه ؛ لأن إرَادَة المُحَال مُحَالٌ مُمْتَنِع ، فثبت أن ظَاهِر القُرْآن العَظيم دلّ على أنّه مَا أرَادَ الإيمان من الكَافِرِ ، والبُرْهَان العَقْلِي الذي قَرَّرْنَاهُ يدل عليه أيضاً ، فَبَطَل قولُهُم من كُلِّ الوُجُوه{[14]} .
فإن قالوا : نَحْمِل هذه الآية على مَشِيئَة الإلْجَاءِ .
فنقول : هذا التَّأويل إنما يَحْسُن المصير إليه ، لو ثَبَت بالبُرْهَان العقْلِيِّ امتِنَاع الحَمْل على [ ظَاهِرِ هذا الكلام ، أمّا لو قام البُرْهَان العَقْلِيُّ على ]{[15]} أن الحقّ ليس إلاَّ ما دلّ عليه هذا الظَّاهِر ، فكيف يُصَار إلى التَّأويل ؟ ثم نقول : التأويل بَاطِلٌ لوجوه :
الأول : أن هذا الكلامَ لا بُدَّ فيه من إضْمَار ، والتقدير : ولو شَاءَ اللَّه الهِدايةَ لهَدَاكُم ، وأنتم تَقُولون : التقدير : لو شاء الله الهِدَاية على سبيل الإلْجَاءِ لهَداكُم ، فإضْمَارُكُم أكثر ، فكَان قَوْلُكُم مرجُوحاً .
الثاني : أنه -تبارك وتعالى- يُريد من الكَافِر الإيمان الاخْتِيَاريّ ؛ والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ ، غير الإيمانِ الحَاصِلَ بالاخْتِيَار ، وعلى هذا التَّقدير : يلزم كَوْنُه -تعالى- عاجزاً عن تَحصِيل مرادِهِ ؛ لأن مُرَادَهُ الإيمان الاخْتِيَاري ، وأنه لا يَقْدِر ألْبَتَّة على تحْصِيلهِ ، فكان القَوْلُ بالعَجْزِ لاَزِماً{[16]} .
الثالث : أن هذا الكلام موقُوفٌ على الفَرْق بَيْن الإيمان الحاصِلِ بالاخْتِيَار ، وبين الإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ .
أمّا الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يَمْتَنِع حصُولُه إلاعِنْد داعيَةٍ جَازِمَة ، وإرادة لازِمَة ، فإن الدَّاعية التي يترتَّبُ عليها حُصُول الفِعْل ؛ إمّا أن تكون بحيث يَجِبُ ترتُّبُ الفِعْل عليها ، أوْ لا يَجِب ، فإن وَجَبَ ، فهي الدَّاعية الضَّرُوريِّة ، وحينئذٍ لا يَبْقى بينها وبين الدَّوَاعِي الحَاصِلة بالإلْجَاء فَرْق ، وإن لم يجب تَرَتُّب الفِعْل ، فحنيئذ يُمْكِن تخلُّف الفِعْل عنها ، فلْنَفْرِض تارة ذلك الفِعْل مُتَخَلِّفاً عنها ، وتارة غير مُتَخَلِّفٍ ، فامْتِيَاز الوَقْتَيْن عن الآخَرِ لا بُدّ وأن يَكُون لِمُرَجِّح زائدٍ ، فالحَاصِل قبل ذلك ما كان تَمَام الدَّاعِية ، وقد فرضْنَاه كذلك ، هذا خلف ، ثم عند انْضِمَام هذا القَيْد الزَّائِد وجب الفِعْل ، لم يبق بَيْنَه وبين الضَّرُورة فرْقٌ ، فإن لم يَجِب ، افْتَقَر إلى قيد زَائدٍ ، ولزم التَّسَلْسُل وهو مَحَالٌ ؛ فَثَبَت أن الفَرْق الذي ذَكَرُوه بين الدَّاعِية الاخْتِياريَّة وبين الدَّاعِيَة الضَّرُورية ، وإن كان في الظَّاهر معتَبَراً ، إلاَّ أنه عند التَّحْقِيق والبحث لا يبقى له مَحْصُولٌ{[17]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.