[ 149 ] { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ( 149 ) } .
{ قل فلله الحجة البالغة } البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات . ومنه : ( أيمان بالغة ) أي : مؤكدة . أو ( البالغة ) التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه فهي ( كعيشة راضية ) . { فلو شاء لهداكم أجمعين } أي : ولكنه لم يشأ ذلك . بل شاء هداية بعض صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق ، وضلال آخرين صرفوا كسبهم على خلاف ذلك ، من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم ، فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه .
قال الإمام أبو منصور الماتريدي في ( تأويلاته ) : قيل : الآية في مشركي العرب . قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرموا من الأشياء . وأضافوا / ذلك إلى الله ، وهو صلة قوله : { ثمانية أزواج . . . } - إلى قوله – { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا }{[3745]} ، فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول : { لو شاء الله ما أشركنا . . . } الآية{[3746]} ! انتهى .
والقصد : الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال . أي : ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل ، ففعلُنا طوع مشيئته ، وهو لا يشاء إلا الحق ، لأنه قادر . فلو لم يكن حقا يرضاه لمنعنا منه . وهو لم يمنعنا منه فهو حق . وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيان لنوع من كفرهم شنيع جدا . . ! .
هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور ، وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها .
فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر ، كما تبجح بذلك منهم الطبرسي الشيعي في ( تفسيره ) وقال : إن فيها تكذيبا ظاهرا لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه ؛ وكذا الزمخشري في ( تفسيره ) .
/ ومعلوم أن عقيدة الفرقة الناجية ، الإيمان بأن : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وانه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه ، لا يكون في ملكه إلا ما يريد ، وهو خالق لأفعال العباد . !
وقد خالف في ذلك عامة القدرية- الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة- فقالوا : لا إرادة إلا بمعنى المشيئة ، وهو لم يرد إلا ما أمر به ، ولم يخلق شيئا من أفعال العباد . فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى . ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة ، تبرأ منهم الصحابة . وأصل بدعتهم- كما قال ابن تيمية- كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه . وسنبيّن تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندمغها- بعونه تعالى- بعدة وجوه فنقول :
( قالوا ) : إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا : أشركنا بإرادة الله تعالى . ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا ، ولمَا صدر عنا تحريم المحللات فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم . ثم إنه تعالى ردّ عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمّهم عليها وأوعدهم عليها وعيدا شديدا . فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك ، على ما تضيفون أنتم ، لم يكن يردّ ذلك عليهم ويتوعدهم ! .
( قلنا ) : إن المشيئة في الآية تتخرج على وجوه :
أحدها : ما قال الحسن والأصم- إن المشيئة ههنا الرضا- فمرادهم : أن الله رضي بفعلنا وصنيعنا- حيث فعل آباؤنا مثل ما فعلنا- فلم يحل بينهم وبين ذلك ، ولا أخذ على أيديهم ، ولا منعهم عن ذلك ؛ فلو لم يرض بذلك عنهم لكان يمنعهم عنه !
قال أبو منصور : وإنما استدلوا بالرضا من الله والإذن فيما كانوا فيه ، أنهم كانوا يخوفون بالهلاك والعذاب على صنيعهم ، ثم رأوا آباءهم ماتوا على ذلك ولم يأت العذاب ، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أن الله رضي بذلك .
/ وبالجملة ، أرادوا بقولهم ذلك ، أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله . ولما كانت حجتهم داحضة باطلة- لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمّر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام- قال تعالى : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } أي : بأن الله راض عليكم فيما أنتم فيه ! وهذا من التهكم والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة .
في ( الوجيز ) : الحاصل أن المشركين اعتقدوا عدم التفرقة بين المأمور المرضي والمشيئة ، كما اعتقدت المعتزلة ، فاحتجوا على حقية الإشراك . وينادي على ذلك قوله : { كذلك كذب . . . } فإنه لو كان المراد أن ذلك ليس بمشيئة الله تعالى لقال : ( كذلك كذَبَ ) بالتخفيف لا التشديد . وهذه الآية- عند من له أذن واعية – تصيح على المعتزلة بالويل والثبور ، لكن في آذانهم وقر ، ومن لم يهده الله فلا هادي له . انتهى .
الوجه الثاني : إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك . أي : يقولون : إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه ، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } فردّ تعالى عليهم بقوله : { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } .
الوجه الثالث : إن قولهم ذلك كان على سبيل الاستهزاء والسخرية دفعا لدعوته صلى الله عليه وسلم ، وتعلّلا لعدم إجابته وانقياده ، لا تفويضا للكائنات إلى مشيئة الله تعالى . فما صدر عنهم كلمة حق أريد بها باطل . ولذلك ذمهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباعه والمتابعة ، فقال : { كذلك كذَّبَ } بالتشديد ، ولم يذمهم بالكذب في قولهم ذلك ، وإلا لقال : ( كذلك كَذَبَ ) بالتخفيف ، إشارة إلى أن ذلك الكلام في نفسه حق وصدق .
وقال آخرا : { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم . فالعتب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم ، إنما كان لاستهزائهم ، / كما ذكر في قوله تعالى{[3747]} : { ويقول الإنسان أئذا ما متُّ لسوف أخرَجُ حيا } هي كلمة حق . لكن قالها استهزاء فلحقه الذم .
وهذا الوجه اقتصر عليه العضد في ( المواقف ) وقرره أيضا أبو منصور في ( تأويلاته ) .
قال الحسن بن الفضل : لو قالوا هذه المقالة تعظيما لله وإجلالا له ومعرفة بحقه وبما يقولون ، لما عابهم بذلك . ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيبا وجدلا من غير معرفة بالله وبما يقولون .
الوجه الرابع : ما يستفاد من قول الإمام : إن في كلام المشركين مقدمتين :
( إحداهما ) : أن الكفر بمشيئة الله تعالى . ( والثانية ) : أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم . وما ورد من الذم والتوبيخ إنما هو على الثانية ، إذ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان ويعذبه على خلافه ويبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى دار السلام ، وإن كان لا يهدي إلا من يشاء .
الوجه الخامس : إن قولهم ذلك كان على سبيل العناد والعتوّ .
قال البقاعي في قوله تعالى : { كذلك كذَّب الذين من قبلهم } أي : بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم : إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثا ، فكانت دعوى الأنبياء باطلة . وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام ، لا يسأل عما يفعل .
وقال الإمام القاشاني قدس سره ، في قوله تعالى : { كذلك كذب الذين من قبلهم } : أي : كذب المنكرون الرسل من قبلهم بتعليق كفرهم بمشيئة الله عنادا وعتوا ، فعذبوا بكفرهم .
ثم قال في قوله تعالى : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } : أي : إن كان لكم / علم بذلك وحجة ، فبينوا . وإنما قال ذلك ، إشارة إلى قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } لأنهم لو قالوا ذلك عن علم ، لعلموا أن إيمان الموحدين وكل شيء ، لا يقع إلا بإرادة الله . فلم يعادوهم ولم ينكروهم بل وَالَوْهُم ، ولم يبق بينهم وبين المؤمنين خلاف . ولعمري إنهم لو قالوا ذلك عن علم ، لما كانوا مشركين بل كانوا موحدين . ولكنهم اتبعوا الظن في ذلك ، وبنوا على التقدير والتخمين لغرض التكذيب والعناد ، وعلى ما سمعوا من الرسل إلزاما لهم وإثباتا لعدم امتناعهم عن الرسل . لأنهم محجوبون في مقام النفس . وأنى لهم اليقين ؟ ومن أين لهم الاطلاع على مشيئة الله ؟ وقوله تعالى : { قل فلله الحجة البالغة } أي : إن كان ظنكم صدقا في تعليق شرككم بمشيئة الله ، فليس لكم حجة على المؤمنين وعلى غيركم من أهل دين ، لكون كل دين حينئذ بمشيئة الله ، فيجب أن توافقوهم وتصدقوهم ، بل لله الحجة عليكم في وجوب تصديقهم وإقراركم بأنكم أشركتم ، بمن لا يقع أمر إلا بإرادته ، ما لا أثر لإرادته أصلا . فأنتم أشقياء في الأزل مستحقون للبعد والعقاب . وقوله تعالى : { فلو شاء لهداكم أجمعين } أي : بلى ، صدقتم . ولكن كما شاء كفركم لو شاء لهداكم كلّكم ، فبأي شيء علمتم أنه لم يشأ هدايتكم حتى أصررتم ؟ وهذا تهييج لمن عسى أن يكون له استعداد منهم فيقمع ويهتدي فيرجع عن الشرك ويؤمن . انتهى .
الوجه السادس : ما في ( لباب التأويل ) من أنه قيل في معنى الآية : أنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة- وهو قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } - إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم ، ويجعلونه حجة لهم في ترك الإيمان . والرد عليهم في ذلك : أن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته ؛ فإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته ، فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد عليه في فعله ، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به ، ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمره بالإيمان . وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع . فالحاصل : أنه / تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في شركهم وكفرهم ، فأخبر الله تعالى أن هذا التمسك فاسد باطل ، فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام . انتهى .
الوجه السابع : ما قرره الناصر في ( الانتصاف ) : إن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم ، وإن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار ، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك . فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم- عدم الاختيار لأنفسهم- وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال . فكذب الرسل ، وأشرك بالله ، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله ، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة . ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك ، وأن الحجة البالغة له لا لهم ، بقوله : { فلله الحجة البالغة } . ثم أوضح تعالى أن كل واقع بمشيئته ، وإنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم ، وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله : { فلو شاء لهداهم أجمعين } . والمقصود من ذلك : أن يتمحض وجه الرد عليهم ، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة ، وعموم تعلقها بكل كائن عن الردّ ؛ وينصرف الردّ إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم ، وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة . وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة . بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها . وهم الفرقة المعروفون ب ( المجبرة ) . والزمخشري يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة ، لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية مميزة بينها وبين أفعاله القسرية . فمن هذه الجهة سوّى بينهم وبين المجبرة ، وبجعله لقبا عاما لأهل السنة . وجماع الردّ على المجبرة- الذين ميزناهم عن أهل السنة- في قوله تعالى : { سيقول الذين أشركوا . . . } - إلى قوله – { قل فلله الحجة البالغة } . وتتمة الآية ردُّ صراح على ( طائفة الاعتزال ) القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين . فلم تقع من أكثرهم ! ووجه الردّ : أن ( لو ) إذا دخلت على فعلثبت نفته ؛ فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال : { فلو شاء } لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم . ولو شاءها لوقعت . فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم . فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين- المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها- فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها . فإن أولها- كما بينا- يثبت لعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان ، وآخرها يثبت نفوذ مشيئة الله في العبد ، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية ، خيرا أو غيره . وذلك عين عقيدتهم . فإنهم- كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة- يسلبون تأثيرها ، ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته ، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره . ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده . فهم- كما رأيت- تبع للكتاب العزيز : يثبتون ما أثبت ، وينفون ما نفى ، مؤيدون بالعقل والنقل ، والله الموفق . انتهى .
وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قيل له : إن ناسا يقولون : ليس الشر بقَدَر . فقال ابن عباس : بيننا وبين أهل القدر هذه الآية : { سيقول الذين أشركوا . . . } إلى قوله- { فلو شاء لهداكم أجمعين }{[3748]} .
وبتحقيق هذه الوجوه يسقط قول الطبرسي المعتزلي : لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر- من أن الله تعالى شاء منهم الكفر- لكانت الحجة للكفار على الله ، من حيث فعلوا ما شاء الله ، ولكانوا بذلك مطيعين له . لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد ، ولا تكون الحجة لله عليهم على قولهم ، من حيث إنه خلق فيهم الكفر وأراد منهم الكفر . فأي حجة له عليهم مع ذلك ؟ انتهى .
وكذا قول الزمخشري : ما حكى عن المشركين كمذهب المجبرة بعينه . ولذا قال النحرير : نعم ! هو كمذهبهم في كون كل كائن بمشيئة الله . لأن الكفار يحتجون بذلك على حقية/ الإشراك وتحريم الحلال وسائر ما يرتكبون من القبائح . وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى الأمر ، على ما هو مذهب القدرية : من عدم التفرقة بين المأمور والمراد ، وأن كل ما هو مراد لله فهو ليس بمعصية منهي عنها . والمجبرة- وإن اعتقدوا أن الكل بمشيئة الله- لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقها العذاب بحكم الوعيد ، ويعفو عن بعضها بحكم الوعد . فهم –في ذلك- يصدقون الله فيما دل عليه العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما يشاء . والكفرة يكذبونه في لحوق الوعيد على ما هو بمشيئته تعالى . انتهى .
قال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي رحمه الله تعالى في كتابه : ( طريق الهجرتين ) بعد أن أطال في سرد أحاديث القدر وآثاره ، ما نصه :
فالجواب أن ههنا مقامين : مقام إيمان وهدى ونجاة ، ومقام ضلال وردى وهلاك ، زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء .
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة ، فمقام إثبات القدر والإيمان به ، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها ، وأن ما شاء كان وإن لم يشأ الناس . وما لم يشأ لم يكن ، وإن شاء الناس . وهذه الآثار- التي كلها تحقق هذا المقام- تبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ، ولبس جلباب الشرك ، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه . وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله .
وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على الله ، وحمل العبد ذنبه على ربه ، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء ، حتى يقول قائل هؤلاء :
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له : *** إياك ! إياك ! أن تبتل بالماء
دعاني وسد الباب دوني . فهل إلى*** دخولي سبيل ؟ بينوا لي قصتي
ثم ساق – رحمه الله- قصصا غريبة في ذلك ، ثم قال :
وسمعته- يعني شيخ الإسلام ابن تيمية- يقول : القدرية المذمومون في السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة : نفاة القدر وهم ( القدرية المجوسية ) . والمعارضون به الشريعة الذين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا } وهم ( القدرية الشركية ) ؟ والمخاصمون به للرب سبحانه وهم أعداء الله وخصومه وهم ( القدرية الإبليسية ) وشيخهم إبليس ، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقل : { بما أغويتني }{[3749]} ولم يعترف بالذنب ويبؤ به كما اعترف به آدم . فمن أقر بالذنب وباء به ونزه ربه فقد أشبه أباه آدم . ومن أشبه أباه فما ظلم . ومن برّأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس . ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شر من القدرية النفاة . لأن النفاة إنما نفوه تنزيها للرب وتعظيما له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب . ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة . بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه . . ونحو ذلك . كما يحكى عن بعض الجبرية إنه حضر مجلس بعض الولاة . فأتى بطرار ( وهو الذي يقطع الهمايين أو الأكمام ويستل ما فيها ) أحول . فقال له الوالي : ما ترى فيه ؟ فقال : اضربه خمسة عشر- يعني سوطا- فقال له بعض الحاضرين- ممن ينفي الجبر- بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطا : خمسة عشر لطرّه ومثلها لَحَوَلِه . فقال الجبري : كيف يضرب على الحَوَل ولا صنع له فيه ؟ فقال : كما يضرب على الطرّ ولا صنع له فيه ، عندك . . . فَبُهتَ الجبري .
/ وأما ( القدرية الإبليسية والمشركية ) فكثير منهم منسلخ عن الشرع ، عدو لله ورسله ، لا يقر بأمر ولا نهي ، وتلك وراثة عن شيوخه الذين قال الله فيهم : { سيقول الذين أشركا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء . . . } {[3750]}الآية ، وقال تعالى{[3751]} : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ، كذلك فعل الذين من قبلهم ، فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } ، وقال تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، ما لهم بذلك من علم ، إن هم إلا يخرصون }{[3752]} ، وقال : { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنُطعم من لو يشاء الله أطعمه إن انتم إلا في ضلال مبين } . فهذه أربعة مواضع في القرآن ، بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل .
وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق :
الفرقة الأولى : جعلت هذه الحجة حجة صحيحة ، وأن للمحتج بها الحجة على الله . ثم افترق هؤلاء فرقتين : ( فرقة ) كذبت بالأمر والوعد والوعيد ، وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والعيد ، بعد هذا ، يكون ظلما ، والله لا يظلم من خلقه أحدا ! و ( فرقة ) صدقت بالأمر والنهي والوعد والعيد وقالت : ليس ذلك بظلم ، والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه ، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده . إذ العبد لا فعل له ، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون . فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا/ هذه المقالة- التي حكاها الله عنهم- استهزاء منهم ، ولو قالوا- اعتقادا للقضاء والقدر ، وإسنادا لجميع الكائنات على مشيئته وقدرته- لم ينكر عليهم . ومضمون قول هذه الفرقة إن هذه حجة صحيحة إذ قالوها على وجه الاعتقاد- لا على جهة الاستهزاء- فيكون للمشركين على الله الحجة ؛ وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا .
الفرقة الثانية : جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة . إذ لو صحت المشيئة العامة- وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان- لكانوا قد قالوا الحق ، وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم . فحيث وصفهم بالخرص- الذي هو الكذب- ونفى عنهم العلم ، دل على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح ، وأنهم كاذبون فيه ؛ إذ لو كان علما لكانوا صادقين في الإخبار به ، ولم يقل لهم : هل عندكم من علم .
وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر ، وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء ، ويشاء ما لا يكون ، وإنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة ، ولا على أفعال الحيوانات . وإنه لا يقدر أن يضل أحدا ، ولا يهديه ، ولا يوفقه أكثر مما فعل به ، ولا يعصمه من الذنوب والكفر ، ولا يلهمه رشده ، و يجعل في قلبه الإيمان ، ولا هو الذي جعل المصلي مصليا والبرَّ برًّا والفاجر فاجرا والمؤمن مؤمنا والكافر كافرا . بل هم جعلوا أنفسهم كذلك .
فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر . فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع . والثانية إلى الشرع ، وكذبت القدر . والطائفتان ضالتان ، وإحداهما أضل من الأخرى .
و ( الفرقة الثالثة ) : آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي . ونزلوا كل واحد منزلته : فالقضاء والقدر يؤمن به ولا يحتج به ، والأمر والنهي يمتثل ويطاع . فالإيمان بالقضاء والقدر-عندهم- من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله الله . والقيام بالأمر/ والنهي موجب شهادة أن محمدا رسول الله . وقالوا : من لم يقر بالقضاء والقدر ، ويقم بالأمر والنهي فقد كذب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه . ثم افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين : ( فرقة ) قالت : إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك . فجعلوا مشيئته له وتقديره له ، دليلا على رضاه به ومحبته له . إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينه وبينهم . فإن الحكيم إذا كان قادرا على دفع ما يكرهه ويبغضه ، دفعه ومنع من وقوعه . وإذا لم يمنع من وقوعه ، لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته . وكلاهما ممتنع في حق الله . فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به .
وقد وافق هؤلاء من قال : إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها . ولكن خالفهم في أنه نهى عنها وأمر بأضداها ويعاقب عليها ، فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر .
وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين ، وأن مشيئة الله تعالى العامة وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدره .
وهؤلاء المشركون- لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه- كذبهم وأنكر عليهم ، وأخبر أنه لا علم لهم بذلك ، وأنهم خارصون مفترون . فإن محبة الله للشيء ورضاءه به ، إنما يعلم بأمره على لسان رسوله ، لا بمجرد خلقه . فإنه خلق إبليس وجنوده- وهم أعداؤه- وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه . . . فهكذا في الأفعال . خلق خيرها وشرها وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه . ويبغض شرها و ينهى عنه ويعاقب عليه . وكلاهما خلقه . ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه ، من الذوات والصفات والأفعال ، كل صادر عن حكمته وعلمه ، كما هو صادر عن قدرته ومشيئته . . .
وقالت الفرقة الثانية : إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر ، ودفع الأمر بالمشيئة . فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره . فجعلوا القضاء والقدر / إبطالا لدعوة الرسل ، ودفعا لما جاءوا به . وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقوالهم ، وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهي .
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام ، وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم ، إما في جميع تركتهم ، وإما في كثير منها ، وإما في جزء منها . وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه ، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض ، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ ، لم يكن ، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد ، وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنا والمصلي مصليا والمتقي متقيا ، وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره ، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار ، وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها ، وأنه يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته ، وأنه يحول بين المرء وقلبه- فكفروا به . ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه ، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعا إيمانا يثابون عليه ويقبل منهم ويرضى به عنهم ، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد . ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون .
و ( القضاء والقدر ) عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى :
الأولى- علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم .
الثانية- كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض .
الثالثة- مشيئته المتناولة لكل موجود ، فلا خروج لكائن عن مشيئته ، كما لا خروج له عن علمه .
الرابعة- خلقه له وإيجاده وتكوينه ، فإنه لا خالق إلا الله ، والله خالق كل شيء . / فالخالق – عندهم- واحد وما سواه فمخلوق . ولا واسطة- عندهم- بين الخالق والمخلوق . ويؤمنون- مع ذلك- بحكمته ، وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه ، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه . وأن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته ، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره- كما تقول نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها- بل هي أمر وراء ذلك ، وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ، ولأجلها خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وأمات وأحيى ، وأشقى وأضل وهدى ، ومنع وأعطى . وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها ، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات الوسائل ونفي للغايات ، وهو محال ، إذ نفي الغاية والفعل وسيلة ، فإثبات الوسيلة- وهي الفعل- لازم لنفي الغاية وهي الحكمة . ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقية ؛ إذ فعل لا يقوم بفاعله ، وحكمة لا تقوم بالحكيم- شيء لا يعقل . وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته . وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه ، وإن أبي التزامه . وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل ، لم يلزم من قوله محذور البتة ، بل قوله حق ، ولازم الحق حق ، كائنا ما كان .
والمقصود : أن ورثة الرسل وخلفاءهم- لكمال ميراثهم لنبيهم آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره ، وقاموا- مع ذلك- بالأمر والنهي ، وصدقوا بالوعد والوعيد : فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة . وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب ؛ فصدقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما- كما فعلت القدرية المجوسية المعارضة للأمر بالقدر- وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة ، لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق / ولب العالم ، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال . . فإن القدرية تؤمن بلفظ ( القدر ) ، ومنهم من يرده إلى العلم ، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني ، ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها ، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر . وكذلك ( الحكمة ) فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها ، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى وإرادته لمراده تعالى ، فهي – عندهم- وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته . . . والقدرية النفاة لا يرضون بهذا ، بل يرتفعون عنه طبقة ، ويثبتون حكمة زائدة على ذلك ، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ، ويجعلونها مخلوقا من مخلوقاته ، كما قالوا في كلامه وإرادته . فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ ( الحكمة ) وجحدوا معناها وحقيقتها . وكذلك ( الأمر ) و ( الشرع ) فإن من أنكر كلام الله وقال : إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ، ولا قال ولا يقول ، ولا يحب شيئا ولا يبغض شيئا ، وجميع الكائنات محبوبة له ، وما لم يكن فهو مكروه له ، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب . ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والفجور والسجود للأصنام والشمس والقمر . ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية . ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل ، ولكن مشى الحال بعض المشي بتناقضهم ، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها .
والمقصود : أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد ، حقيقة الإيمان ، إلا أتباع الرسل وورثتهم .
والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته . ولهذا قال الإمام أحمد : القدر قدرة الله . واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال : إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر .
ولهذا ، كان المنكرون للقدر فرقتين : فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته ، وهم غلاتهم / الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة . وفرقة جحدت كمال القدرة ، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى ، وصرحت بأن الله لا يقدر عليها . فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب ، وأنكرت الأخرى كمال علمه . وقابلهم الجبرية : فجاءت على إثبات القدرة والعلم ، وأنكرت الحكمة والرحمة .
ولهذا ، كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته . ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين من هذه الثلاثة كثيرا ، كقوله : { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم }{[3753]} ، وقال : { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم }{[3754]} ، وقال : { حم ، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }{[3755]} ، وقال في ( حم فصلت ، بعد ذكر تخليق العالم ) : { ذلك تقدير العزيز العليم }{[3756]} ، وذكر نظير هذا في ( الأنعام ) فقال : { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ، ذلك تقدير العزيز العليم } . فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود عن قدرته . وارتباط بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه . وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها ، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه . وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته ، فهو عليم بخلقه وأمره ، حكيم في خلقه وأمره . ولهذا ، كان ( الحكيم ) من أسمائه الحسنى . فالحكمة من صفاته العلى ، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة ، والرسول / المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة . والحكمة هي سنة الرسول ، هي تتضمن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به . فكل هذا يسمى حكمة . وفي الأثر{[3757]} : " الحكمة ضالة المؤمن " . وفي الحديث : {[3758]} " إن من الشعر حكمة " . فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته ، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده . وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدا استحقه لذاته ، وصدر عنه خلقه وأمره . فمصدر ذلك كله عن الحكمة . فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة . والله أعلم . انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، في خلال بعض فتاويه ، في حقيقة الاحتجاج بالقضاء والقدر ، ما نصه :
وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية . حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا . . . } الآية ؛ فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي ، وأنكروا التوحيد- الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له- وهم يقرون بتوحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء ، ما بقي عندهم من فرق ، من جهة الله تعالى ، بين مأمور ومحظور فقالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا حرمنا من شيء } ، وهذا حق . فإن الله لو شاء أن لا يكون هذا لم يكن . ولكن أي فائدة لهم في هذا ؟ غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر ، ولا يلزم إذا كان مقدرا أن يكون حبوبا مرضيا لله . ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه ، بل ليسوا في ذلك إلا على ظن وخرص . انتهى .
وقال بعض المحققين في حقيقة العقيدة :
ثبت بالبرهان أن قدرة الله تعالى متصرفة في الممكنات عن إرادة واختيار . وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة ، ووجوه النظام . وأنه خالق كل شيء وإليه يرجع الأمر كله . ومن الممكنات التي اقتضتها الحكمة والنظام وجود مخلوق ذي قدرة وإرادة وعلم ، يعمل بقدرته ما تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه ، وهذا- عند البعض- هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله وبدائع أسراره فيها ، ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه . ولا يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آناً بعد آن ، ولا يعلم مبلغه من ذلك إلا الله تعالى . والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم السلام . ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك . حاشاه .
قال البيضاوي ( في بيان أن كل نبي خليفة ) : استخلفهم في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وتنفيذ أمره فيهم – لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه- بل لقصور المستخلف عليه من قبول فيضه . وتلقي أمره بغير وسط . ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا }{[3759]} . انتهى .
وكذلك إذا قلنا : إن كل نوع خليفة في العوالم الأرضية .
فعلم من كل من القولين ؛ أن في الإنسان معنى ليس في غيره . فإذا كانت خلقة الملك لا تساعد على إرشاد الناس ، لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكل واحد التلقي منه ، فكذلك لا تساعد خلقته . وليس من وظيفتها ، إظهار خواص الأجسام وقواها ووجه الانتفاع/ بها . ولو كان إيجاد مخلوق- على ما ذكرنا في خلق الإنسان- غير ممكن لما وجد . ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلا من ينكر الحس والوجدان ، وهما أصل كل برهان . ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيء ما .
إذن معنا قضيتان قطعيتا الثبوت .
( إحداهما } : كون الإنسان يعمل بقدرة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف ، وهي بديهية .
و ( الثانية ) : هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء ، وهي نظرية .
ويتولد من هاتين القضيتين القطعيتين مسألتان نظريتان :
الأولى : ما الفرق بين علم الله وإرادته وقدرته ، وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته ؟
( أحدها ) : أن صفات الله قديمة بقدمه ثابتة له ولذاته . وصفات الإنسان حادثة بحدوثه وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته .
( ثانيها ) : أن علم الله محيط بكل شيء{[3760]} يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وأما الإنسان فما أوتي من العلم{[3761]} إلا قليلا ! وإرادة الله تعالى لا تتغير ولا تقبل الفسخ لأنها على علم تام . بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردده في العلم بالشيء . وتفسخ لظهور الخطأ في العلم الذي بنيت عليه . وتتجدد لتجدد علم لم يكن له من قبل . وقدرة الله تعالى متصرفة في كل ممكن . فيفعل كل ما يعلم أن فيه الحكمة . وقدرة الإنسان لا تصرف لها ولا كسب إلا في أقل القليل من الممكنات . / فكم من أمر يعلم أن فيه مصلحته ومنفعة له وهو لا يقدر على القيام به .
( ثالثها ) : أن صفات الإنسان عرضة للضعف والزوال ، وصفات الله تعالى أبدية كما أنها أزلية .
وبالجملة : إن المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم ، لا في الجنس كما زعم بعضهم ، فبطل زعم من قال : إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته- يقتضي أن يكون شريكا لله تعالى{[3762]} . { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } .
المسألة الثانية : وهي عضلة العقد ومحك المنتقد- أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل ؛ بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة ، والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل .
ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية . فإذا كان قد سبق القضاء المبرم- بأن زيدا يعيش كافرا ويموت كافرا- فما معنى مطالبته بالإيمان وهو ليس في طاقته ؟ ولا يمكن في الواقع نفس الأمر أن يصدر منه . لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختار له ؟ كما قال بعضهم . والجواب عن هذا : أن تعلق العلم والإرادة بأن فلانا يفعل كذا ، لا ينافي أن يفعله باختيار ، إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطرا كحركة المرتعش مثلا . ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية ، أي : بإرادة فاعليها لا رغما عنهم . وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثا ولا لغوا ؟
وثم وجه آخر في الجواب ، وهو : لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلا يفعل كذا ، يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبورا على فعله ، لكان الواجب ، تعالى وتقدس ، مجبورا على/ أفعاله كلها . لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك ، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لابد من وقوعه .
فتبين- بهذا- أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار ، واشتبهت عليهم الأنظار ، فكابروا الحس والوجدان ، ودابروا الدليل والبرهان ، وعطلوا الشرائع والأديان ، وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره ، ولا فقهوا سر نهيه وأمره ، حيث جرؤا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار ، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر ، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله . بل ذلك إغراء ، وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله الأشياء ! أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته ، ويظلم الجهل بصيرته ، أن يكون أعظم مهذب لنفسه ، ومؤدب لعقله وحسه ، اعتقاده بأن الله عليم يما يسر ويعلن ، ويظهر ويبطن ، وأنه ناظر إليه ومطلع عليه ؟ بلى{[3763]} ! " إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . وأما الذين ضلوا السبيل ، / واتبعوا فاسد التأويل ، فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عز وجل : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا . . } الآية . فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل ، وجعل احتجاجهم بالقدر من أسباب وقوع البأس والبلاء بهم .
وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قلبه ، والله عليم حكيم .