القول في تأويل قوله تعالى : { لأنتُمْ أَشَدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَفْقَهُونَ * لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرًى مّحَصّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّىَ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأنتم أيها المؤمنون أشدّ رهبة في صدور اليهود من بني النضير من الله : يقول : هم يرهبونهم أشدّ من رهبتهم من الله ذَلكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يقول تعالى ذكره : هذه الرهبة التي لكم في صدور هؤلاء اليهود التي هي أشد من رهبتهم من الله من أجل أنهم قوم لا يفقهون ، قدر عظمة الله ، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه ، ولا يرهبون عقابه قدر رهبته منكم .
لما كان المقصود من ذكر وهن المنافقين في القتال تشديد نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأنفُسِ المؤمنين حتى لا يرهبوهم ولا يخشوا مساندتهم لأهل حرب المسلمين أحلاف المنافقين قريظة وخيبر أعقب ذلك بإعلام المؤمنين بأن المنافقين وأحلافهم يخشون المسلمين خشية شديدة وُصفت شدتها بأنها أشد من خشيتهم الله تعالى ، فإن خشية جميع الخلق من الله أعظم خشية فإذا بلغت الخشية في قلب أحد أن تكون أعظم من خشية الله فذلك منتهى الخشية .
والمقصود تشديد نفوس المسلمين ليعلموا أن عدوّهم مُرهَب منهم ، وذلك مما يزيد المسلمين إقداماً في محاربتهم إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على المنافقين واليهود قلة رهبتهم لله بل إعلام المسلمين بأنهم أرهب لهم من كل أعظم الرهبات .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين .
والصدور مراد بها : النفوس والضمائر لأن محل أجهزتها في الصدور .
والرَّهبة : مصدر رهب ، أي خاف .
وقوله : { في صدورهم } ل { رهبة } فهي رهبة أولئك .
وضمير { صدورهم } عائد إلى { الذين نافقوا } [ الحشر : 11 ] و { الذين كفروا من أهل الكتاب } [ الحشر : 11 ] إذ ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما ، ولأن المقصودِين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر وأما المنافقون فكانوا أعواناً لهم .
وإسناد { أشَدّ } إلى ضمير المسلمين المخاطبين إسناد سببيّ كأنه قيل : لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبة فيها . فالرهبة في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله ، وكل مصدر لفعل متعدّ يحتمل أن يضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله ، ولذلك فسره الزمخشري بأشد مرهوبية .
و { من الله } هو المفضل عليه ، وهو على حذف مضاف ، أي من رهبة الله ، أي من رهبتهم الله كما قال النابغة :
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وَعِلٍ في ذي المطارة عاقل
وهذا تركيب غريب النسج بديعه . والمألوف في أداء مثل هذا المعنى أن يقال : لَرهبتهم منكم في صدورهم أشد من رهبتهم من الله ، فحُوّل عن هذا النسج إلى النسج الذي حبك عليه في الآية ، ليتأتّى الابتداء بضمير المسلمين اهتماماً به وليكون متعلّق الرهبة ذوات المسلمين لتوقع بطشهم وليأتي التمييز المحول عن الفاعل لما فيه من خصوصية الإِجمال مع التفصيل كما تقرر في خصوصية قوله تعالى : { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم : 4 ] دون : واشتعل شيبُ رأسي . وليتأتى حذف المضاف في تركيب { من الله } ، إذ التقدير : من رهبة الله لأن حذفه لا يحسن إلا إذا كان موقعه متصلاً بلفظ { رهبة } ، إذ لا يحسن أن يقال : لرهبتهم أشد من الله . وانظر ما تقدم عند تفسير قوله تعالى : { إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية } في سورة [ النساء : 77 ] .
فاليهود والمنافقون من شأنهم أن يخشوا الله .
أما اليهود فلأنهم أهل دين فَهُم يخافون الله ويحذرون عقاب الدنيا وعقاب الآخرة . وأما المنافقون فهم مشركون وهم يعترفون بأن الله تعالى هو الإله الأعظم ، وأنه أولى الموجودات بأن يخشى لأنه ربّ الجميع وهم لا يثبتون البعث والجزاءَ فخشيتهم الله قاصرة على خشية عذاب الدنيا من خسف وقحط واستئصال ونحو ذلك وليس وراء ذلك خشية . وهذا بشارة للنبيء والمسلمين بأن الله أوقع الرعب منهم في نفوس عدوّهم كما قال النبي : نُصِرت بالرعب مسيرة شهر .
ووجه وصف الرهبة بأنها في صدورهم الإِشارة إلى أنها رهبة جدُّ خفيّة ، أي أنهم يتظاهرون بالاستعداد لحرب المسلمين ويتطاولون بالشجاعة ليرهبهم المسلمون وما هم بتلك المثابة فأطلع الله رسوله على دخيلتهم فليس قوله : { في صدورهم } وصفاً كاشفاً .
وإذ قد حصلت البشارة من الخبر عن الرعب الذي في قلوبهم ثُنّي عنان الكلام إلى مذمّة هؤلاء الأعداء من جراء كونهم أخوفَ للناس منهم لله تعالى بأن ذلك من قلة فقه نفوسهم ، ولو فقهوا لكانوا أخوف لله منهم للناس فنظروا فيما يخلصهم من عقاب التفريط في النظر في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلموا صدقهُ فنجَوا من عواقب كفرهم به في الدنيا والآخرة فكانت رهبتهم من المسلمين هذه الرهبة مصيبة عليهم وفائدة للمسلمين .
فالجملة معترضة بين البيان ومبيّنه .
والإِشارة بذلك إلى المذكور من قوله : { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } واجتلاب اسم الإِشارة ليتميز الأمر المحكوم عليه أتم تمييز لغرابته .
والباء للسببية والمجرورُ خبر عن اسم الإِشارة ، أي سبب ذلك المذكور وهو انتفاء فقاهتهم .
وإقحام لفظ { قوم } لما يؤذن به من أن عدم فقه أنفسهم أمر عرفوا به جميعاً وصار من مقومات قَوميتهم لا يخلو عنه أحد منهم ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله : { لآيات لقوم يعقلون } في سورة [ البقرة : 164 ] .
والفقه : فهم المعاني الخفية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } في سورة [ النساء : 78 ] ، وقوله : { انظر كيف نصرّف الآيات لعلّهم يفقهون } في سورة [ الأنعام : 65 ] ، ذلك أنهم تَبِعوا دواعي الخوف المشاهد وذهلوا عن الخوف المغيب عن أبصارهم ، وهو خوف الله فكان ذلك من قلة فهمهم للخفيّات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لأنتم} معشر المسلمين {أشد رهبة في صدورهم من الله} يعني قلوب المنافقين.
{ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} فيعتبرون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأنتم أيها المؤمنون أشدّ رهبة في صدور اليهود من بني النضير من الله: يقول: هم يرهبونهم أشدّ من رهبتهم من الله،" ذَلكَ بأنّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ "يقول تعالى ذكره: هذه الرهبة التي لكم في صدور هؤلاء اليهود التي هي أشد من رهبتهم من الله، من أجل أنهم قوم لا يفقهون قدر عظمة الله، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه، ولا يرهبون عقابه قدر رهبتهم منكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} وذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: أنهم لا يفقهون أن البلايا التي في الدنيا ونعيمها تذكير ببلايا الآخرة ونعيمها، وكانوا يرون أنها جعلت لأنفسها؛ وإذا كان هذا وهمهم وحسبانهم لم يرهبوا من الله تعالى.
والثاني: {بأنهم قوم لا يفقهون} من الوعد والوعيد، بل كانت رهبتهم ممن كانوا يأملون منهم المنافع، ويحذرون مضارهم، فلا يرهبون من الله تعالى.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالفقه: العلم بمفهوم الكلام في ظاهره ومتضمنه عند إدراكه، ويتفاضل أحوال الناس فيه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَّ يَفْقَهُونَ} لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم خاطب تعالى أمة محمد مخبراً أن اليهود والمنافقين أشد خوفاً من المؤمنين منهم من الله تعالى، لأنهم يتوقعون عاجل الشر من المؤمنين، لا يؤمنون بآجل العذاب من الله تعالى، وذلك لقلة فهمهم بالأمور وفقهم بالحق...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
أصل الرهبة والرهب: الخوف الشديد مع حزن واضطراب.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وجعل الصدر مقراً للرهبة، دليل على تمكنها منهم، بحيث صارت الصدور مقراً لها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
هم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله، لاحتجابهم بالخلق عن الحق بسبب جهلهم بالله وعدم معرفتهم له، إذ لو عرفوه لشعروا بعظمته وقدرته وعلمه ولم يستخفوا بمعاصيه ويستخفوا بأوامره والضمير للمنافقين أو اليهود.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة. ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه. فالعزة لله جميعا، وكل قوى الكون خاضعة لأمره، (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها)، فمم يخاف إذن ذلك الذي يخاف الله؟ ولكن الذين لا يفقهون هذه الحقيقة يخافون عباد الله أشد مما يخافون الله..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كان المقصود من ذكر وهن المنافقين في القتال، تشديد نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأنفُسِ المؤمنين، حتى لا يرهبوهم ولا يخشوا مساندتهم لأهل حرب المسلمين أحلاف المنافقين قريظة وخيبر، أعقب ذلك بإعلام المؤمنين بأن المنافقين وأحلافهم يخشون المسلمين خشية شديدة وُصفت شدتها بأنها أشد من خشيتهم الله تعالى، فإن خشية جميع الخلق من الله أعظم خشية، فإذا بلغت الخشية في قلب أحد أن تكون أعظم من خشية الله، فذلك منتهى الخشية. والمقصود تشديد نفوس المسلمين ليعلموا أن عدوّهم مُرهَب منهم، وذلك مما يزيد المسلمين إقداماً في محاربتهم، إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على المنافقين واليهود قلة رهبتهم لله، بل إعلام المسلمين بأنهم أرهب لهم من كل أعظم الرهبات. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين. وضمير {صدورهم} عائد إلى {الذين نافقوا}
و {الذين كفروا من أهل الكتاب} إذ ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما، ولأن المقصودِين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر وأما المنافقون فكانوا أعواناً لهم.
وهذا بشارة للنبيء والمسلمين بأن الله أوقع الرعب منهم في نفوس عدوّهم كما قال النبي: نُصِرت بالرعب مسيرة شهر. ووجه وصف الرهبة بأنها في صدورهم الإِشارة إلى أنها رهبة جدُّ خفيّة، أي أنهم يتظاهرون بالاستعداد لحرب المسلمين ويتطاولون بالشجاعة ليرهبهم المسلمون وما هم بتلك المثابة فأطلع الله رسوله على دخيلتهم فليس قوله: {في صدورهم} وصفاً كاشفاً. وإذ قد حصلت البشارة من الخبر عن الرعب الذي في قلوبهم، ثُنّي عنان الكلام إلى مذمّة هؤلاء الأعداء من جراء كونهم أخوفَ للناس منهم لله تعالى بأن ذلك من قلة فقه نفوسهم، ولو فقهوا لكانوا أخوف لله منهم للناس، فنظروا فيما يخلصهم من عقاب التفريط في النظر في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلموا صدقهُ فنجَوا من عواقب كفرهم به في الدنيا والآخرة، فكانت رهبتهم من المسلمين هذه الرهبة مصيبة عليهم وفائدة للمسلمين. وإقحام لفظ {قوم} لما يؤذن به من أن عدم فقه أنفسهم أمر عرفوا به جميعاً وصار من مقومات قَوميتهم لا يخلو عنه أحد منهم.
والفقه: فهم المعاني الخفية، ذلك أنهم تَبِعوا دواعي الخوف المشاهد، وذهلوا عن الخوف المغيب عن أبصارهم، وهو خوف الله، فكان ذلك من قلة فهمهم للخفيّات.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لأنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ} فتلك هي الحقيقة النفسية للمنافقين ولإخوانهم من الذين كفروا من أهل الكتاب، فهم لا يعيشون في أعماقهم الشعور بعظمة الله المطلقة التي يشعر بها المؤمنون بالله، ولا يتحسسون الخوف منه لتكون مواقع حركتهم متجهةً إلى الابتعاد عن مواقع غضب الله وسخطه، فيكونون الأقوياء بالله في مواجهة أعدائه، بل يعيشون الشعور بمواقع القوة المادية من حولهم، في ما يملكه الناس من قوة البطش والقهر، ما يجعل قلوبهم فارغةً من خوف الله، مملوءةً بخوف الناس.
ولمّا كان المسلمون في الموقع المميّز للقوة آنذاك، كانت مشاعر الخوف من المسلمين لدى المنافقين واليهود أقوى من مشاعر خوفهم من الله الذي لا يستشعرون الإيمان به، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} لأنهم لا يعرفون مدى عظمة الله... ولهذا فإن المسألة هي مسألة وعيٍ للحقيقة الإلهية في حركة القوة الكونية، مما لا يفهمه إلا المؤمنون...