قوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } . قال الكلبي : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما ، " جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كانت عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم ، وأربعة آلاف أقرضتها ربي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله فيما أمسكت ، وفيما أعطيت ، وأما عثمان فجهز جيش المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير ، بأقتابها وأحلاسها ، فنزلت فيهما هذه الآية " . وقال عبد الرحمن بن سمرة : " جاء عثمان رضي الله عنه بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول : ما ضر ابن عفان بعد اليوم ، فأنزل الله تعالى : ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ) في طاعة الله " .
قوله تعالى : { ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً } . وهو أن يمن عليه بعطائه فيقول : أعطيتك كذا ، ويعد نعمه عليه فيكدرها .
قوله تعالى : { ولا أذى } . هو أن يعيره فيقول : إلى كم تسأل ؟ وكم تؤذيني ؟ وقيل : من الأذى هو أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه . وقال سفيان : مناً ولا أذى هو أن يقول : قد أعطيتك فما شكرت . قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان أبي يقول : إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه ، فحظر الله على عباده المن بالصنيعة ، واختص به صفة لنفسه ، لأن من العباد تعيير . وتكدير ومن الله إفضال وتذكير .
يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من{[4419]} أعطوه ، فلا يمنون على أحد ، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل .
وقوله : { وَلا أَذًى } أي : لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان . ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ، فقال : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم } أي : ثوابهم على الله ، لا على أحد سواه { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم } أي : فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : [ على ]{[4420]} ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها{[4421]} لا يأسفون عليها ؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك .
{ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : المعطي ماله المجاهدين في سبيل الله معونة لهم على جهاد أعداء الله . يقول تعالى ذكره : الذين يعنون المجاهدين في سيبل الله بالإنفاق عليهم وفي حمولتهم ، وغير ذلك من مؤنهم ، ثم لم يتبع نفقته التي أنفقها عليهم منّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم ولا أذى لهم¹ فامتنانه به عليهم بأن ظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم بفعله ، وعطائه الذي أعطاهموه ، تقوية لهم على جهاد عدوّهم معروفا ، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل . وأما الأذى فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقّواهم من النفقة في سبيل الله أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد ، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذيبه من أنفق عليه . وإنما شرط ذلك في المنفق في سبيل الله ، وأوجب الأجر لمن كان غير مانّ ولا مؤذ من أنفق عليه في سبيل الله ، لأن النفقة التي هي في سبيل الله مما ابتغي به وجه الله ، وطلبه ما عنده ، فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا ، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه ، لأنه لا يد له قبله ولا صنيعة يستحق بها عليه إن لم يكافئه عليها المنّ والأذى ، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتساباوابتغاء ثواب الله وطلب مَرضاته وعلى الله مثويته دون من أنفق ذلك عليه .
وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبَعُونَ ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } علم الله أن أناسا يمنون بعطيتهم ، فكره ذلك وقدّم فيه فقال : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةً يَتْبَعُها أذًى وَاللّهُ غَنِيّ حَلِيمٌ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال للاَخرين يعني : قال الله للاَخرين ، وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوّهم : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى . قال : فشرط عليهم . قال : والخارج لم يشرط عليه قليلاً ولا كثيرا ، يعني بالخارج الخارج في الجهاد الذي ذكر الله في قوله : { مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ } . . . الآية . قال ابن زيد : وكان أبي يقول : إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئا ، أو تقوى فقويت في سبيل الله ، فظننت أنه يثقل عليه سلامك فكفّ سلامك عنه . قال ابن زيد : فهو خير من السلام . قال : وقالت امرأة لأبي : يا أبا أسامة ، تدلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا ، فإنهم لا يخرجون إلا ليأكلوا الفواكه ! عندي جعبة وأسهم فيها . فقال لها : لا بارك الله لك في جعبتك ، ولا في أسهمك ، فقد آذيْتِهم قبل أن تعطيهم ! قال : وكان رجل يقول لهم : اخرجوا وكلوا الفواكه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : { لاَ يُتْبِعُونَ ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى } قال : أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منّا وأذى .
وأما قوله : { لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ } فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بين . والهاء والميم في لهم عائدة على «الذين » .
ومعنى قوله : { لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ } لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله ، ثم لا يتبعونها منّا ولا أذى .
وقوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يقول : وهم مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا¹ لا خوف عليهم عند مقدمهم على الله ، وفراقهم الدنيا ، ولا في أهوال القيامة ، وأن ينالهم من مكارهها ، أو يصيبهم فيها من عقاب الله ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.