محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (262)

{ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون 262 } .

{ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون } أي لا يعقبون { ما أنفقوا منّا } وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقا { ولا أذى } وهو / ذكره لغيره فيؤذيه بذلك أو التطاول عليه بسببه { لهم أجرهم عند ربهم } الموعود به قبل { ولا خوف عليهم } أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة { ولا هم يحزنون } على فائت من زهرة الدنيا ، لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك .

لطائف :

الأولى : قال الزمخشريّ معنى ( ثم ) إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى . وفي ( حواشيه ) للناصر ما نصه : ( ثم ) في أصل وضعها تشعر بتراخي المعطوف بها عن المعطوف عليه في الزمان وبُعد ما بينهما ، والزمخشريّ يحملها على التفاوت في المراتب والتباعد بينهما . حيث لا يمكنه حملها على التراخي في الزمان لسياق يأبى ذلك . كهذه الآية . وحاصله أنها استعيرت من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة . وعندي فيها وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها . وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه . فهي على هذا لم تخرج عن الإشعار ببعد الزمن . ولكن معناها الأصليّ تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه . ومعناها المستعارة إليه دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه . وعليه حمل قوله تعالى : { ثم استقاموا } {[1424]} أي داموا على الاستقامة دواماً متراخياً ممتد الأمد . وتلك الاستقامة هي المعتبرة ، لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيّد إلى الهوى والشهوات ، وكذلك قوله : { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى } أي يدومون على تناسي الأحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الأذية وتقليد المنن بسببه ، ثم يتوبون . والله أعلم . وقريب من هذا أو مثله ، أن السين يصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه وتراخيه . ثم ورد قوله تعالى حكاية / عن الخليل عليه السلام : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } {[1425]} . وقد حكى الله تعالى في مثل هذه الآية : { الذي خلقني فهو يهدين } {[1426]} . فليس إلى حمل السين على تراخي زمان وقوع الهداية له من سبيل . فيتعين المصير إلى حملها على الدلالة على تنفس دوام الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها . انتهى .

الثانية : قال الزمخشريّ : ( فإن قلت ) أي فرق بين قوله : { لهم أجرهم } ، وقوله فيما بعد : { فلهم أجرهم } ؟ ( قلت ) الموصول لم يضمن ههنا معنى الشرط ، وضمنه ثَمَّهْ . والفرق بينهما من جهة المعنى أن الفاء فيها دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر ، وطرحها عار عن تلك الدلالة .

وقال أبو السعود : وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها ، للإيذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك إتباع المنّ والأذى أمر بيّن لا يحتاج إلى التصريح بالسببية .


[1424]:[41/ فصلت/ 30] ونصها: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون 30}. و[46/ الأحقاف/ 13] ونصها: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون 13}.
[1425]:[37/ الصافات/ 99].
[1426]:[26/ الشعراء/ 78].