تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (262)

261

262- { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } استئناف جيء به لبيان كيفية الإنفاق الذي يحبه الله . ويجازي عليه المنفقين بالجزاء العظيم وقوله : { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى } تحذير للمتصدق من هاتين الصفتين الذميمتين لأنهما مبطلتان لثواب الصدقة .

و المن معناه : أن يتطاول المحسن بإحسانه على من أحسن إليه ويتفاخر عليه بسبب ما أعطاه من عطايا . كأن يقول على سبيل التفاخر والتعيير لقد أحسنت إليك وأنقذتك من الفقر وما يشبه ذلك .

قال الإمام الرازي ما مخلصه : والمن في اللغة على وجوه فقد يأتي بمعنى الإنعام يقال قد من الله على فلان إذا انعم عليه بنعمة وقد يأتي بمعنى النقص من الحق والبخس له قال تعالى- وإن لك لأجرا غير ممنون ( القلم 3 ) . أي غير مقطوع وغير ممنوع ومنه سمي الموت منونا لأنه يقطع الأعمار ومن هذا الباب المنة المذمومة لأنها تنقص النعمة وتكدرها والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة والمراد بالمن في الآية المن المذموم هو بمعنى إظهار الاصطناع إليهم ( 33 ) .

و قال صاحب الكشاف : المن : أن يعتد على من أحسن بإحسانه ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا وكانوا يقولون إذ صنعتم صنيعة فانسوها ولبعضهم .

و ان امرؤ أسدى إلى صنيعة *** وذكرنيها إنه للئيم

و في نوابغ الكلم : " صنوان من منح سائله ومنّ ومن منع نائله وضن والمراد بالأذى في الآية أن يقول المعطى لمن أعطاه قولا يؤذيه او يفعل معه فعلا يسئ به إليه وهو أعم من المن إذ المن نوع من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه ( 34 ) .

و جاء العطف بثم في الجملة الكريمة لإظهار التفاوت الشديد في الرتبة بين الإنفاق الذي يحبه الله وبين الإنفاق الذي يصاحبه المن والأذى والإشعار بان المن والأذى بغيضان عند الإنفاق وبعده فعلى المنفق أن يستمر في أدبه وإخلاصه وقت الإنفاق وبعده حتى لا يذهب ثوابه إذ المن والاذى مبطلان للثواب في أي وقت يحصلان فيه .

قال الشيخ ابن المنير مبينا أن " ثم " هنا تفيد استمرار الفعل بجانب إفادتها للتفاوت في الرتبة : وعندي فيها - أي في ثم - وجه آخر محتمل في هذه الآية ونحوها وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه فهي على هذا لم تخرج على الإشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناه المستعار إليه دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه وعليه حمل قوله : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } أي وداوموا على هذه الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد . . و كذلك قوله تعالى هنا : { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى } أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان والأذى . . ( 35 ) .

و كرر- سبحانه النفي في قوله : { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى } لتأكيده وشموله لأفراد كل واحد منهما أي يجب ألا يقع منهم أي نوع من أنواع المن ولا أي نوع من أنواع الأذى حتى لقد قال بعض الصالحين : " لئن ظننت أن سلامك يثقل على ما أنفقت عليه بنفقة تبتغي بها وجه الله فلا تسلم عليه " .

ثم ختم سبحانه الآية ببيان عاقبة المنفقين بلا من ولا أذى فقال : { لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . أي لهم جزاؤهم العظيم مكافأة لهم على أدبهم وإخلاصهم عند مربيهم مالك أمرهم ولا خوف عليهم مما سيجدونه في مستقبلهم ولا هم يحزنون على ماضيهم وذلك لأن الله تعالى قد أحاطهم برعايته في دنياهم وأخراهم وعوضهم عما فارقوه خير عوض وأكرمه .